العدد: 9439
الخميس :3-10-2019
حين غَافلْنا العمالَ المنتشرين على حدودِ قريتنا، ولعبنا بشقاوةٍ بتلك القضبانِ الضخمةِ، لم أكن أعلم أن القضبانَ ستلتحمُ معاً لتشكّلَ سكةَ حديدٍ يسيرُ عليها قطارُ حياتي.
كنا نلتفُ بفضولنا الطفولي وبساطتنا الريفية حول العمالِ الذين يحاولون عبثاً إبعادنا، وهم يمدّون السككَ الحديديةَ التي ستفتحُ لمدينتنا آفاقاً جديدةً كما قال شيخ الجامع حينها، على خلافِ رأي جدتي التي بكت وصرخت: ياويلتاه، قضوا علينا ودمروا مستقبلَ أولادنا بعد أن قسّمَت تلك الخطوطُ أراضينا إلى قسمين.
لن أنسى ما حييت لحظةَ مرَّ القطارُ أولَ مرةٍ، لقد ذكّرني بثورِ العمِ (أبي حاتم) وهو ينفضُ رأسَهُ بشراسةٍ وقد أفلتَ من لجامِهِ وركضَ في أرجاءِ القريةِ ينشرُ الذّعرَ بينَ أبنائِها.
لم أكن أسمعُ صوتَ أخي وهو يناديني: محمد، يامحمد، الثورُ قادمٌ إليك اركض واهرب من أمامه، ابتعد يا أخي.
وصلَ الثورُ المندفعُ بجنونٍ وتسمّرت خطواتي بسنواتي التي ربما لم تتجاوز التاسعة ووقف فجأة أمامي، لم أخف، أنا متأكد من ذلك، كنتُ معجباً به، مندهشاً ربما اقترب مني فلم يشتم رائحةَ الخوف، نفض رأسه وتراجع.
كانت عيون سكان القرية مصوّبة حولي، والرجال تركض في محاولة إنقاذي، وأنا واقفٌ أناظر ثوري، وفجأةً ظهرت جارتنا (أم نادر) من باب ما واختطفتني وأدخلتني إلى دار وهي تتلو التعويذات.
لحظاتٌ مرت والنسوة يغلقن منافذ الهواء فوق رأسي ويصرخن، وصلت أمي بأنفاسٍ متقطعةٍ: محمد، محمد، يا روح أمك، ماذا جرى لك، هل انعقد لسانك يا صغيري؟ هل بللت سروالك؟
فتحت فمي ببرود: ما أعظم الثور يا أمي! كم هو رائع، لا يخاف أحداً، أريد أن أكون ثوراً.
صُدم الجميع من كلامي وأنا أركض لأتابع ما حدث للثور خارجاً وأصرخ بخبثٍ طفولي: لا، لا، لم أبلل سروالي يا أمي، ربما جارتنا (أم نادر) فعلت.
كان القطار ثوراً كبيراً بالنسبة إلي، لا يمكن إيقافه أبداً ويمكنه الإطاحة بكلِ شيءٍ، لذا قررتُ يوماً أنني سأقود هذا الثور وأروضه، ولم تمر السنوات ببطءٍ، بل كانت سريعة كفاية بما يتناسب مع صوت الصفير الذي رافق صباحاتنا ومساءاتنا في القرية، كبرنا وصار دخان القطار وضجيجه وطريقه أجزاء لا تتجزأ من ذكرياتنا، ودرست في معهد متخصص بالسكك الحديدية وخضعتُ لدوراتٍ في القيادة، وها أنا أمتطي ثوري الكبير بزهوٍ، ألّوحُ لسكان قريتي والقرى المجاورة كما كنت أحلم في صغري.
كم تخيّلت هذا المشهد، أنا أقود القطار وزهراء على سطح بيتهم تنشرُ ذلكَ الغسيلَ الأبيضَ كقلبها، ترفعُ يدها وتلّوحُ لي فتحمرُّ وجنتاها كحبتي خوخٍ من شجرتنا الريحاوية.
نعم (زهراء) الآن تنشرُ ملابسَ أطفالنا الذين يلوحون لي في طريق ذهابي وإيابي، ويفاخرون بأن والدَهُم هو سائِقُ القطارِ الذي عاد للعملِ بعد توقفِ سنواتٍ عدة بسبب الأزمة والتفجيرات التي تسبب بها الإرهابيون فعطّلوا حركة سير القطارات بين المحافظات.
كانت تلك أسوأ محطةٍ في رحلةِ حياتي، العمل المكتبي لفترةٍ ريثما تهدأ الأمور وتعود القطارات للعمل، لا أتخيّل نفسي مخنوقاً هناك.
أنا أنطلق مع ثوري، أقصد (قطاري) نحو المجهول كل يومٍ ولا أجيد إلا ذلك، الحمد لله عدنا والعَودُ أحمد، ما هذا؟ ما هذا الذي أراهُ ؟ إنها شابةٌ تسيرُ على سكةِ القطارِ بعد المنعطفِ مباشرة، كم هي متهورة، أمجنونة هي؟ سأطلقُ الصافرة، اسمعي أيتها الفتاة، ألا تسمعين صوت القطار؟ المسافة قريبةن كيف سأوقفُ هذا الثور الجامح؟
الفراملُ لن تفيدني فالمسافة قريبةٌ جداً.
مرت حياتي كلّها أمامي في لحظةٍ، لن يتوقف القطار في الوقت المناسب، سيدهسها،
توقف أرجوكَ، توقف.
كان شابٌ صغيرٌ يركضُ صارخاً: رهف، رهف، القطارُ يسير باتجاهك يا رهف، ابتعدي عن الطريق يا أختي، اهربي.
نظرت رهف في عيني شقيقها الذي كان يبتعد عنها حوالي مئة متر ثم نظرت اتجاهي نظرة خاطفة، تسمّرت، لم تتحرك، هل تظن نفسها محمداً يواجه الثور، إنه قطارٌ مجنون، الثور يجرحك لكن القطار يقتلك يا ره .
صرت أحدث نفسي بجنون وأنا أطلق الصافرة وأصرخ وأشير إليها لتبتعد لكن رائحة الخوف صدرت من عينيها وكفيها وقدميها، تسمرت فوقَ السكةِ لكنَّ الثور لن يتوقف هذه المرة بل ظلّ يركض باتجاهها ليدهس أحلامها وأحلامي ورحلة عمرها وفرحي.
توقف ذلك الهائج الملعون بعد كيلو متر تقريباً، وقد تلطخ بدماء صبية بعمر الزهور وضعها القدرُ في طريقه لأكرهه وأكره تلك اللحظة التي لعبت فيها صغيراً على سكتة.
لم أخف من الثور في التاسعة وأحببت القطار، لكني اليوم خفت وكرهت.
لماذا لم تكن جارتنا أم نادر موجودة اليوم لتحتضن رهف الشابة الصغيرة، لِمَ لَمْ تبتعد عن القطار، لِمَ لَمْ ينحرف القطار عن الطريق فحسب؟
لِمَ كنت أنا من يقوده في هذا اليوم البائس ألم يكن مقرراً أن اصطحب أولادي في نزهةٍ إلى البحر، لماذا فضّلتُ البقاءَ معك أيها الصديقُ اللئيم وشاركتك في جريمتك القاسية ؟
لا يملك القطار حق الدفاع عن نفسه، ولن أسمح لهُ بذلك ولكنه لن يعود صديقي ثانيةً، ولن أسمح له أن يشركني في ثورانِهِ وجنونِهِ.
سأعود إلى قريتي منكسراً، بل لن أعود إليها، لن أسمع صوته كل يوم، سأذهبُ إلى مكانٍ لا صفير فيه، لا جنون، لا قطارات.
نور نديم عمران