العدد: 9425
الأحد: 15-9-2019
يعاني التكرار في كلّ شيءٍ، فهو يذهب لعمله ويشعر بأمسه أكثر مما يشعر بيومه، حتى الكلمات التي يلفظها تحمل الإيقاع ذاته.
يبتعد قليلاً عن بيته، فيرى نفسه في مقهىً أشبه بمن يلقي دلواً في بئر، فيرتشف قهوته بوقتٍ محددٍ، ثم يعود لذلك البيت الذي لا يخترق صمته سوى ساعة جدارية، فالأبناء رحلوا والجدران لم تعد مكسوّة بدفئهم، أما اللغة مع زوجته فقد صارت إشارة وإيماءً، لا تعيق الأنفاس وتجنّب الصداع.
يفتح (التلفاز)، فيجد معظم المشاهد قد أعادت نفسها، أما الباقي فلا يعنيه، بل يزعجه إلى حدّ الكحّة المفاجئة وقد تمرّدت على التوقّف، وهي تشبه ساعات نومه التي يرى فيها الأحلام المتكررة، لكنها تزداد رمادية في كل مرةٍ، فالألوان ذهبت مع شباب العمر.
ولأن الأصدقاء والمعارف قد أكمل أغلبهم مسيرة عمره، فكان بين الحين والآخر، يجوب أطراف المدينة ليسأل ويطمئنّ على الأحياء منهم، فيأتيه الردّ في الغالب، بأن الذي يفتّش عنه، صار في مسكنه الجديد بالعالم الآخر، فتنتابه أعراض العزلة أكثر فأكثر، ويعود بعينين طافيتين وهو يقول في سرّه: دخل فلانٌ في أبيضه الثاني.
وللأبيض قصّة ملخّصها: (مع اللحظة الأولى لولادة الطفل تستقبله أمّه بحليبها الأبيض، وبنهاية أنفاسه الأخيرة، يتمّ استقباله لرحلة العالم الآخر بكفنٍ أبيض).
بعد أن يتذكر قصّة الأبيض، يدخل بيته بباقة وردٍ بيضاء، فتضعها زوجته في غرفة الطعام وبمكان قريب من صندوق الفضلات ثم تقول: أين ستضع باقة موتي؟
يبقى السؤال مدوّياً لأيام قليلة، ثم تعود الحال إلى حالها وهكذا، في كل مرة.
منذ أيام قليلة، شوهد وهو يردّ على مكالمةٍ هاتفيةٍ مطوّلةٍ تغيرت معها ملامحه، فقد كان يبدو كمن حمل عمله الوظيفيّ وبيته ومقهاه وأوراق ذاكرته على كتفيه، ثم توارى بعيداً!.
سمير عوض