أصدقاء بالأجرة ..

العـــــدد 9415

الخميـــــــس 29 آب 2019

 

 

 

يا لها من دوّامة يعيشها وهو في عقده السّابع، لقد رحل الأبناء ومعظم الأهل والأصدقاء, فبعضهم غادر الحياة, وبعضهم سافر, والبيت ليس فيه سوى أصوات وصور ذكريات تهتزّ وتبهت مع كلّ جديد, فلا يشعر بشروق الشّمس ولا بغروبها, هو دائماً على موعد مع اللّا شيء, فيلجأ بين الحين والآخر لمقبرة المدينة, ومع كلّ زيارة: يفقد فيها معالم قبر غطّاه الإهمال بعد ارتفاع قبور جديدة من حوله, تحمل من ثراء الدّنيا باقة!
قبل العودة لبيته, كان يقوم بجولة يغدق فيها المال والمساعدة علّه يلقى شيئاً من صداقة ما, وكلّما ضيّقت عليه الوحدة أبوابها, كان في المقابل يزيد عطاياه, حتّى صار عاجزاً عن تقديم القليل.. القليل, وكادت تختفي مدّخراته, فيطرق الغانمون مع مطلع كلّ شهر بابه, وكأنّهم دائنوه وقد جاؤوا لاستيفاء ديونهم, عدا عن الذين يصادفهم على الدّروب والأزقّة, وقد أشبعوه مطالبة بالمال, ولا يخلو الموقف من بعض الكلمات الحادّة التي تشعره بالتقصير والتخّلف عن دفع المستحقّات التي اعتادوها, فيسخر من نفسه ويقول: لم يرحمني أحد من أصدقاء الأجرة, ويا ليتني رحلت واغتربت, فبالرحيل هدوء, وبالاغتراب أصدقاء جمعتهم الغربة.
ولأنّ بيته في نزاع مع الورثة ودوائر الرّهن والحجز، وتقادم الأعوام, لم يتمكّن من بيعه, بل تأجيره بطريقة خاطئة لم يعد قادراً على تفسيرها!
وكغريق استنجد بموجة, فقد ألقته تلك الموجة خارجاً, ليشرق صباحه على رصيف مع حفنة ذكريات, وأكياس صغيرة يرتعد من فتحها, وكأنّه يجد صعوبة في دفنها أو دفن نفسه فيها!
أمّا الرّصيف فلم يكن يوماً يأبه للذكريات, أو لبقايا عمر يجمعها ذلك السبعينيّ.
المارّة على ذلك الرصيف, على عجل في سيرهم, وهو مثلهم على عجل في انتظاره, وما بين السّير والانتظار: خطوة أو حبّة دواء منسيّة أو.. مقهى أرهق بزبائنه فأغلق أبوابه, و …آخرون ما زالوا يبحثون عن أصدقاء بالأجرة, وبين آونة وأخرى, ولا يخلو المكان من شامت يخترق الأصوات ويقول: آخر العمر بلا سلالم ولا سقف ولا مال, بل ثوب دموع يغطي رابية بشريّة عمرها سبعون, فكان الرّد بسرعة الخائف من اسمه (على المرء أن يستمتع بحياته, لأنّها قد تتغيّر في أية لحظة).
أمّا المال فما هو إلا كتلك الخطوات التي ستتوقّف في نهاية رحلة ينتظرها الإفلاس أو الموت, والاثنان سواء.

سمير عوض

تصفح المزيد..
آخر الأخبار