العدد: 9287
7-2-2019
في كلّ بيتٍ يُخصّص لها ركنٌ أو زاوية، رفوفٌ عدة تصطَفّ فوق وبمحاذاة بعضها بعضاً، تتربّع عليها آنيات فخارية أو زجاجية، وإكسسوارات مزخرفة، تعلوها مجموعة من الكتب والمجلّدات تتصدّر رفوفها، إنها المكتبة المنزلية التي يكاد لا يخلو منزل منها، وتعدّ أحد الأثاثات المهمة التي لا يُستغنى عنها.
قديماً كانت مثقلةً بحمولتها خاصة من مختلف أنواع الكتب وأصنافها، يمكنك تناول كل ما يرضي ذائقتك الأدبية والفكرية والعلمية، تزخر بعناوين كبيرة، وأسماء أكبر منها، لا سيّما السلسلات المتصلة بعضها ببعض أو المجلّات التي تروي السّير الذاتية أو تاريخ وحضارات الشعوب والأمم، يتباهى أصحابها بما تحفل به خاصةً إن كان مخطوطةً أو كتاباً لا نظير له ونُسخَة تكاد تكون معدودةً أو معدومةً في العالم.
وفي معرض الحديث أذكر مكتبة والدي المنزلية التي كانت ولا زالت تعبق برائحة الورق، ويطيب لك تناول ما طاب من عناوين وأسماء كتبها وكتّابها، ثروة حقيقية تجتمع بين رفوف خشبية، حرص على اقتناء هذا الكنز طوال عمره، وما زال شغفاً بقراءة أو إعادة قراءة ما فيها مرّات ومرات دون كلل أو ملل، لطالما وجدت هذا الكنز أمامي أجد نفسي مواظبةً على تناول بعض عناوينها، مُذ كنت صغيرةً، ورغم كبر مضامينها عليّ إلاّ أنني كنت دائمة السؤال والاستفسار عن معانيها ومقاصدها.
أمّا هذه العناوين فهي تشكيلة متفرّدة في التميّر والانتقاء، من قصة الحضارة إلى مجلّدات الأغاني، إلى كتب الشعر والأدب والرواية، وللعلوم الفكرية والاقتصادية حصّتها بينها، أمّا السّير الذاتية والشّخصية لكبار العلماء والفاتحين والأدباء و… تحجز لها مكاناً بينها، عدا عن الكتب ذات الطابع الديني أو الفلسفي، تلبّي مختلف الأذواق، وترضي رغبات وتطلّعات كل من تقع عيناه عليها.
هذه الحالة الخاصة التي تحدثت عنها، يمكن تعميمها لا سيما عند الجيل القديم الذي كان نهماً للقراءة والمطالعة إلى حد كبير، بينما نجد أن هذا الميل قد خبا وتراجع عند جيل الشباب الحالي، إن لم نقل انقرضت هذه المكتبة المنزلية، واستغني عن كتبها بأشياء لا قيمة ولا معنى لها، أو كما يقال: انتهت موضتها، وهنا الطّامّة الكُبرى، إذ إن ابتعاد هذا الجيل عن الكتاب والغربة عنه، يخلق جيلاً غير متّصل بواقعه وحاضره إلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه الأخيرة رغم اكتساحها بقية الوسائل، إلا أنها لا تحلّ مكان الكتاب، لا قيمة ولا فكراً ولا تاريخاً.
حتّى أن بعض من كان مواظباً على عادة المطالعة والقراءة، نراه اليوم مشغولاً بمتطلّبات الحياة الصّعبة، وهمّه تأمين لقمة عيشه وأبنائه، فكيف له أن يبتاع كتاباً وأولاده أحقّ وأجدر بثمنه؟ كما أنّ الظروف المعيشية القاسية وضغوطات العمل والوظيفة حالت دون إيجاد فسحةٍ ولو قصيرة من الزمن لتناول كتابٍ يرافق أمسياتنا أو صباحاتنا، فكيف لهؤلاء أن يبنوا مكتبةً في منازلهم قبل أن يبنوا أجساد أبنائهم؟!
بالمقابل نجد بعض الناس وقد لامست مكتباتهم السّقف وأُتخمت بعناوين وأسماء لا تعدّ ولا تحصى، إلا أن عقول أصحاب هذه المكتبات ما تزال فارغةً، وعاجزةً عن اكتساب خبرةٍ أو معلومةٍ أو ثقافةٍ، تضاهي عقول من لا مكتبة عنده، وهؤلاء كان الأجدر بهم ملء رفوفها بالأطباق والكؤوس والصور التذكارية والإكسسوارات وأقلام الحبر الصّدئة والجافة، وتخصيص ركنٍ للعناكب تبني بيوتها فيها، بدل بناء العقول.
قالها يوماً ميخائيل نُعيمة: ( عندما تصبح المكتبة في البيت ضرورة كالطاولة والسرير والكرسي والمطبخ، فعندئذ يمكن القول إننا أصبحنا متحضّرين)، فهل تنطبق هذه المقولة على أبناء الجيل الحديث؟ أم سيبقى جيلاً جاهلاً بتاريخه وحضارته وإرثه المعرفي والفكري؟ منغمساً في وجبات الحياة السريعة غير آبهٍ بمستقبله ومستقبل أبنائه وأحفاده.
ريم محمد جبيلي