العدد: 9388
الثلاثاء: 16-7-2019
تعاني بعض الأسر السورية شظف العيش وصعوبة تأمين مستلزمات الحياة اليومية وضروراتها أو حتى أساسياتها، بفعل عوامل عدّة تشعّبت أسبابها ومقوّمات وجودها، ما دفع بعضهم إلى النّحت في الصّخر والاستعانة بالوقت بدل الضائع ورهن حياتهم للعمل ثم العمل، ما جنّبهم سؤال الناس ومدّ أيديهم طلباً للحاجة والمال.
أنّى يمّمت وجهك في أحياء المدينة وضواحيها تستقبلك أرصفتها وشوارعها وساحاتها بأناسٍ بعضهم افترش الطريق عارضاً ما جادت به أنامله أو أنامل أهل بيته، وبعضهم قاد عرباته المحمّلة بالذّرة أو أطايب الطعام ولذائذه.
العم أبو علي يضع بساطاً مشغولاً بالحبّ والنقاء والصفاء، يتفيّأ ظلال أشجار المدينة، يستمع إلى صخبها ووشوشات أحبّتها، يتشاركها أوكسجين الفرح والحزن، تتجوّل بعينيك بين أوراق الغار وإكليل الجبل، الزوفا البرّية والريحان، الزعتر بأصنافه وأنواعه المختلفة، باقاتٌ عطِرة من الزهورات والنعناع والمردكوش والشاي الأخضر، حتى صابون الغار له منصّة يعلوها ويتصدّر بها قارعة الرصيف، تسأله عن مكان إقامته؟ فيجيبك: بلاد الله الواسعة.
* أتغفو هنا؟ قال: نعم، درب قريتي بعيد ولا طاقة لي على تكاليف الطريق، أقصدها كلما انتهت (بضاعتي) وأيام الجمعة.
* كيف تدبّر طعامك وشرابك وماءك ونحن في عزّ حرّ الصيف؟ أجاب: زوّادتي أرغفة خبز أعمل منها سندويتشات أو أشتري الفطائر الجاهزة أو الفلافل (ضاحكاً) أكلة الفقير، ومياه السبيل تكفيني وتروي ظمأي.
* ألديك زبائن؟ نعم وهم كُثر ويوصونني على كل ما يحتاجونه من خيرات القرية وما تبخل به المدينة، وأسعاري زهيدة جداً، يقبلها الفقير والثّري، دون الحاجة إلى المجادلة، تستوقفهم هذه الباقات اليابسة ليُحيوها في أكوابهم وعلى شرفاتهم.
تشقّ طريقك على أرصفة المجهول، وليس ببعيدٍ عن العمّ أبو علي تستوقفك عربة عرانيس الذّرة، بخصلها الذهبية وألوانها الشمسية، يتحلّق حولها عشّاق الذهب الأصفر، مفروطة أم سليمة، تسأله: بكم الصحن؟ يجيبك: مائتي ليرة، وما أرخصها! وجبة لذيذة مفيدة وغنية بالفيتامينات لك ولأبنائك، لا ملوّنات أو صبغات اصطناعية تخشاها، ولا مواد أو مركبات كيماوية تخافها، لا جراثيم أو فيروسات تجد طريقها إليها، حارّة وطازجة، مواصفات غذائية قياسية تضاهي العالمية بجودتها، شابّ في مقتبل العمر يقود عجلاتها، سألته: أهي مصدر رزقك الوحيد؟ قال: نعم، فأنا أعيش مع والدتي وأؤمن لها احتياجاتها كافة، والحمد لله الرزق جيّد ويكفي حاجياتنا اليومية، لكنه لا يساعدني لتأمين مستقبلي واستقراري العائلي.
وبعده بأمتارٍ قليلة تقف عربة حلوى الأطفال (غزل البنات) بلونها الورديّ المبهج الجذّاب، الذي ما إن تقع عينا أي طفلٍ عليه إلا ويطلبه، ومناداة صاحب العربة عليه بكلماته الجميلة وصوته الصدّاح يجذبان الكبير قبل الصغير، وبسؤاله عن أحواله يجيب: (مستورة والحمد لله)، آتي يومياً إلى هذه الزاوية وأركن عربتي فيها دون أن أزعج أحداً من المارّة أو السيارات، وأصبح لديّ زبائني الذين يقصدونني من الأحياء المجاورة لابتياع غزل البنات، حلوى الكبار والصغار.
وعن تكلفة حلواه؟ أجابنا: بسيطة جداً لا تتعدى ثمن السكر الذي يشكل قوامها، وملوّن أضعه بكمية قليلة لإضفاء اللون الورديّ عليها.
وأنت تتابع جولتك في أحياء المدينة التي لا تنام، تستوقفك أحواض الزهور الصغيرة التي تغفو على الأرصفة وتزيّنها، ورغم أنها تحجز لنفسها مكاناً هنا وهناك، لكنها غير مربكة للمارّة، بل على العكس تشدّهم إليها وتستوقفهم روائحها العطرة، طاقة إيجابية تنثر عبقها لتنزع عنّا ومنّا آثار يومياتنا السلبية وعُقدنا وأمراضنا النفسية والاجتماعية، وتدفعنا إلى التفكّر بروعتها وجمالها الأخّاذين، يقول صاحب الورد: أحاول قدر الإمكان ألا تزعج ورودي أحداً، وأجعلها تصطفّ بجوار بعضها مرحّبةً بأهل الطريق وسكان المدينة وزوارها، ولا شكّ أني أتعرّض أحياناً لمضايقاتٍ من هنا وهناك، لكني أستوعب مثل هذه المواقف لإدراكي أني على خطأ إلى حدٍّ ما، لكن العين بصيرة واليد قصيرة، ولا قدرة لي على استئجار محل تجاري أو شرائه، فهذه باهظة الثمن وأحد أحلامي التي لن تتحقق، إلا بورقة يانصيب أزاول على ابتياعها كل أسبوع (ضاحكاً) ولابدّ أن تنجح عجلات الحظ وتجبر بخاطري يوماً ما…
ومع اشتداد حرارة الصيف يضع بعضهم برّادات المثلّجات لتبرد قلوب الظمآى وترويها، زبائنها من الفئات العمرية المختلفة، تبحث عنها بين الأزقّة وعلى مداخل الأحياء، أسعارها القليلة تجاه محلات المثلّجات الأخرى تجعل روّادها كُثر، أصنافٌ وألوان مبهجة، لا يكتمل مشوارك المسائي دونها، ولا تحلو نزهات الأطفال دونها، وبعض باعتها أصبحوا يتفننون في طرائق تقديمها وبيعها، بأسلوب جذّاب، يعتمد النظافة واللباقة في البيع، وما أكثرهم هذه الأيام.
اللافت في شوارع المدينة شبه خلوّها من الباعة النسوة، وهذا بالتأكيد إيجابي، فكل ما سبق ذكره يقوم عليه رجال وشباب، أما النساء يكفيهنّ ما وراء الجدران وخلف حدود الأرصفة والشوارع، إلا في بعض المناطق كما هو الحال عليه في سوق الخضار الذي تفترشه بعضهن بما جادت به أراضيهن من خيرات وبركات وعطاءات، ويشكل مصدر رزقهنّ وعائلاتهنّ.
في قلب المدينة النابض حياةً وصخباً وجوهٌ حفرت السنون أخاديدها عميقاً فوق الجباه، وغيّرت ملامح الوجوه، أحدهم يصدح بصوته منادياً على بضاعته وكأنها النخب الأول الذي لا يجاريه نخبٌ ثانٍ، وآخر ينقّل نظراته بين المارّة، مستجديةً إيّاهم الاقتراب والشراء دون صخب جاره، وثالثٌ زيّن الرصيف وغيّر ملامحه ليصبح أشبه بلوحةٍ فنّية تعجّ بالتّحف والأيقونات، لا داعي لسؤالهم عن أحوالهم، فكل ما لديهم ينطق عنها ويبوح بأسرارها وخفاياها، حتى باعة أوراق اليانصيب، يبيعون الحظّ ويقسمون أغلظ الأيمان أنه هنا بين أيديهم، لا جدوى من البحث عنه ومطاردته خلف حدود السماء، لا عليك سوى ابتياعه، ومن قال إنّ الحظّ لا يُشرى ولا يُباع؟
ولأطفال المدينة قصصٌ وحكايات، لا يعلم تفاصيلها إلا أهل الدّار، يطاردون الناس في الشوارع، وبين الأزقّة والأحياء، حتّى السيارات لا تسلم منهم، لا على إشارات المرور ولا على الطرقات السريعة والبطيئة، أحلامهم وطائرات الورق سواء، يقبضون عليها لكنها بعيدة المنال، تتّشح ثيابهم بسواد الفقر ومرارته، وتنتعل أقدامهم أثقال الأرض وما عليها.. لا مفرّ من وجوههم التي تلاحقك أيّما ملاحقة، قد تحمل العلكة المغلّفة بقناع التّسوّل، أو بضع علب محارم تمسح بها عرقك المتصبّب ألماً وحسرةً عليهم.. ليس هذا وحسب إنّما يصارعون حرّ الصيف وقرّ الشتاء وأعاصير البرد وزوابع الهواء، ويدحرونهم صاغرين خجلاً من آمالهم وآلامهم.
في أحيائنا الراقية المشاهدات السابقة قليلة لا بل نادرة، لا زبائن لها ولا زوّار، طقوس سكانها المخملية تبعدهم عنها وتطيّرهم خارج أسرابها، استكبار بعضهم وعنجهيته وفوقيّته يجعلونه فوق البشر، وأكبر من جبران خواطر هؤلاء الناس، حتّى إن نظرات الازدراء التي يحوّطونهم بها وعبارات الطرد والاستبعاد كفيلان بألا يجد هؤلاء الناس سبيلاً إلى مثل هذه الأحياء وقطع طرقات الرزق عنهم قبل سلكها، رغم أن ساكنيها الأحق والأجدر بدفع زكاة أموالهم وحسناتهم لمثل هؤلاء! لكنهم الأحرص على أن تذهب أموالهم ونفقاتهم في سُبُلٍ أقرب إلى أهل السماء من أهل الأرض؟!
ريم جبيلي