العدد: 9386
الأحد-14-7-2019
الإنسان رغب أم لم يرغب محكوم بالعبث واللاجدوى، وانعدام المعنى، ولذلك لابد من البحث عن إجابة لمعنى حياتنا، وعندما نجدها سيصطلح كل شيء . .. بهذه الكلمات استهل الأستاذ الأديب صالح سميا محاضرته التي حملت عنوان: فلسفة العبث وذلك في صالة الجولان بمقر اتحاد الكتاب العرب في اللاذقية حيث أشار في بدايتها إلى مفهوم العبث من الناحية الفلسفية موضحاً أنه الضياع والانخلاع الإنساني، أي الاغتراب عن الذات والسقوط في عالم الأشياء عند (هيجل) وهو الانفصال بين الإنسان ونتاج عمله عند (ماركس) وهو السلب والفوضى وعدم النظام عند أحمد حيدر وهو التشيؤ تحت نظرة الغير، والتبدّد في الحوادث عند (سارتر) وهو الوجود المنحط أو الهارب من ماهيته عند (هيدجر) وهو الخطيئة عند (كيركغارد) والانفصال عن المتعالي عند (ياسبرزومارسيل) وتابع الأديب سميا حديثه قائلاً: كيف يواجه الإنسان مصيره في عالم فقد قدسيته وطهارته وفقد معناه وانطفأت شموع الروح فيه؟
عالم مقلوب استطاع أن يشيئ الإنسان ويسلّعه فغدا التطاول على المقدسات والقيم أمراً مقبولاً لقد ضلّ العقل الإنساني طريقه وهو يتخبط في ليل لا آخر له وفي هوة لا قرار لها وفي خضم هذا الضياع والفوضى والانحلال والشقاء والتعاسة والألم لا يبقى للإنسان سوى الأمل بعودة الصفاء والطهارة والكرامة فهل ثمة عودة؟
كما أشار المحاضر في سياق حديثه إلى الأسس التي يقيم عليها كتَّاب اللامعقول بناءهم وهي انعدام المعايير والقيم وفقدان المعنى.. هذا العالم اللامعقول الذي يتجلى بالبشاعة والنشاز وعدم التناسق والمثير للضحك والسخرية والباعث للحزن والبكاء وهو الخلو من الهدف والانفصال عن الأصل حيث يصبح السلوك غير مبرر والكلام مجرد لغوٍ أجوف، ولكي يتم التوحيد بين الشكل والمضمون في أعمال كتَّاب اللامعقول جاءت كتاباتهم متصفة بعدم التناسق مثيرة للضحك والبكاء .. وعن كتَّاب الوجودية أوضح الأديب قائلاً: يلتقي كتَّاب الوجودية مع كتَّاب اللامعقول حول أغلب المفاهيم كعدمية القيم وانعدام المعنى في الحياة وبما أن اللاعقلاني عند الوجوديين متغلغل في صميم الوجود الإنساني لذلك ينتهي هذا الوجود دوماً بدروب مغلقة والإنسان منفي عن ذاته، مغترب متبدد في الحوادث محكوم بالخطيئة والسقوط غير أن كتَّاب الوجودية يختلفون عن كتَّاب اللامعقول في الشكل التعبيري فالأعمال الأدبية لديهم مبنية على الجدل وهي حسنة البناء والأبطال عندهم يتصفون باليقظة ويعتمدون في مجادلاتهم الحجة والمنطق في حين يعتمد كتَّاب اللامعقول على الحدس والصورة الشعرية بعيداً عن المناقشات المنطقية والجدل الفلسفي .
محور آخر تحدث عنه المحاضر هو مسرح العبث، حيث أشار إلى التوحيد بين الشكل والمضمون الذي يميز هذا المسرح موضحاً أن عالم (بيكيت) ينقصه التناسق، أبطاله هامشيون ممزقون مسمرون في المكان ينتظرون أن ينير أمامهم بقعةً مظلمة، بصيص ضوء آت من المخلص كما (في انتظار جودو) إنه الأمل الذي لم يبق للإنسان سواه، بعد البؤس الحياتي والتشيؤ الذي آل إليه إنسان هذا العصر من فقدان للثقة بعد أن عاش الخوف والقلق وعانى ويلات حربين عالميتين عصفتا بأوروبا ودمار هيروشيما وناكازاكي بالقنابل الذرية حيث غادرت الإنسانية مشروعها كما يقول الدكتور صلاح يونس في كتابه (أطياف المفاهيم)، فكان من إفرازات هذا الوضع أدب اللامعقول والأدب الوجودي فكلاهما من إفرازات هذه الحياة الفاقدة لمعناها وطهارتها والكاتب الوجودي يبقي لبطله شيئاً من التوثب اليقظ على الرغم من القلق الذي يعانيه باعتباره حراً فالبحث عن الذات الضائعة وسط عبثية الحياة هو محور اهتمام الأدب الوجودي وأدب اللامعقول بغية إيجادها وبعث الثقة والأمل فيها من جديد لذلك نجد مسرح العبث يسخر من عبثية الحياة المفعمة بالزيف والنفاق ومن الذين يخفون وراء حركاتهم وأحاديثهم حيوانية مخيفة وقد صور(يونسكو) في مسرحيته المغنية الصلعاء ومسرحية الكراسي مدى الجدب والزيف الذي يسود العلاقات الاجتماعية في المجتمع البرجوازي مع أن النقد الاجتماعي ليس هو الغاية الرئيسة لمسرح العبث بل غايته الأهم هي مواجهة لا معقولية الحياة في عالم فقد إيمانه ويقينه وأبطال مسرح العبث في مواجهة الزمن يفرون من الموت بالصعود إلى قم الجبال أو الغوص إلى الأعماق السحيقة أو يتمردون عليه ثم يستسلمون في نهاية الأمر.. وفي سياق حديثه تحدث المحاضر عن التهكم وقال بأنه أسلوب من أساليب مسرح اللامعقول فسخافات الحياة ودناءاتها يحتل الوجود إلى شيء غريب ومضحك في نظر من يتوقون إلى المطلق فالسخرية من أقوى الأسلحة لزلزلة الأرض تحت أقدام الرياء والنفاق في رأي حكيم أثينا فالتهكم ذو طابع مزدوج فهو من ناحية تدميري يقوم على تحطيم المظهر المألوف للوجود وهو من ناحية أخرى بناء حيث يقيم عالماً جديداً من خلال النقد الذي يمارسه على الروابط العادية للصور والكلمات والأشياء والسلوك فيولد صداماً يقودنا إلى ارتياد عالم الفوضى وأكدّ المحاضر أن علم النفس أظهر أن العقل الباطن يحتوي على قسطٍ من الحقيقة يكون أحياناً أكبر مما يظهر في الكلام المنطوق وقد ختم المحاضر حديثه بالقول: إن أدب اللامعقول وفلسفة العبث ما هما في النهاية إلا حركةٌ تهدف إلى الوصول بالإنسان إلى المعقولية وتخليصه من اليأس وبعث الأمل فيه، إنهما دعوة لمواجهة هذا اللامعقول وليس السقوط فيه فالعصر لم يتحول بعد إلى رمادٍ كما يقول ماركوز ولكنه في الطريق إليه مالم نوقف الطوفان الزاحف، فالعبثية تقتحم عالمنا من كل الجهات، وما لم نواجهها بالموقف العبثي الواعي، ما لم نشرّع كل الأسلحة في وجهها فمن الصعب أن يبقى للإنسان كإنسان وجود فعلي في المستقبل، إننا في زمن المواجهة مع الآلة المعدنية وإذا لم ننتصر عليها فستحولنا إلى آلات عمياء تتعبد في هياكلها في مذلةٍ واستكانةٍ.
ندى كمال سلوم