“شاهنامه” (سيرة الملوك) قلب الثقافة الفارسية النابض

الوحدة: ١٥-٣-٢٠٢٤
يصادف في الخامس عشر من شهر آذار الذكرى السنوية لإتمام تأليف الـ “شاهنامه” (سيرة الملوك) سنة ٤٠٠ه.ق، على يد الشاعر والحكيم “أبو القاسم فردوسي” (٣٢٩ ه.ق – ٤١٦ ه.ق)، الذي كرّس لهذا العمل الأدبي ثلاثين سنة من حياته وكل ما يملكه من ثروة، والتزم الدقة والأمانة في نقل هذه القصص كما وصلت إليه، وأعمل فيها خياله الخصب ولغته العذبة وأسلوبه الجزل.
الـ “شاهنامه” هذه الملحمة الشعرية التي ما زالت بعد مضيّ ألف سنةٍ على تأليفها قابلةً للفهم، وليس هذا فحسب، بل ما زالت قادرةً على جذب القارئ والتأثير فيه، ومخاطبته بلسان عصره، وقيمه، وقضاياه. فالـ “شاهنامه” ليست مجرد ملحمة شعرية فحسب، تتوقف عند إخبار الأخبار، بل هي كتابٌ في الحكمة والتاريخ والثقافة والأخلاق والفلسفة. وليس غريباً أن نجد الإيرانيين منذ ألف سنةٍ وحتى اليوم، على اختلاف توجهاتهم الفكرية والدينية، يطلقون على الفردوسي لقب “الحكيم”، وعلى الـ “شاهنامه” اسم “كتاب الحكمة”، فهو لم يشتهر بينهم بالشاعر الفذّ وحسب، بل هو الحكيم ومعلم الأخلاق، الذي ضمّن قصص ملحمته كثيراً من الدروس في الإنسانية والأخلاق والفضيلة، إذ نجد فردوسي يبدأ كل قصةٍ من قصصه ويختمها بتناول إحدى القيم الأخلاقية السامية وتعظيمها وذمّ ما يناقضها من أخلاق ذميمة، بعيداً عن لغة الوعظ والإرشاد الجافة، لذلك نستطيع القول إن الـ “شاهنامه” هي قصة الصراع الدائم بين الخير والشر، والنور والظلام، والعدل والظلم، والحرية والعبودية، والإخلاص والخيانة … وقد عرض ذلك كله من خلال رسم الشخصيات والأحداث بدقةٍ ومهارةٍ فنيةٍ عاليةٍ، بعيداً عن التعقيد والغموض. وجاءت اللغة البسيطة والعذبة والواضحة على مستوى المفردات والتراكيب والجمل لتؤدي دوراً جوهرياً في تشكيل الشخصية والتعرف على أعماقها وما تحمله من رؤى وأفكار، إضافة إلى رسم عوالمها الخارجية. ولعل التزام الفردوسي باستعمال هذه اللغة البسيطة والواضحة وابتعاده عن غرائب اللغة والمتروك من الألفاظ هو ما جعل الـ “شاهنامه” قابلةً للفهم حتى يومنا هذا. ومن العوامل الأخرى التي قد تكون مؤثرةً في إقبال الناس على قراءة الـ “شاهنامه” وذكر قصصها في محافلهم ومناسباتهم الاجتماعية والدينية والوطنية حتى يومنا هذا، هو أن الفردوسي لم يجعلها مجرد عرض لسير الملوك والأبطال والمعارك والنزاعات، بل حملت بين طياتها العشق والموت والسعادة والإيمان والتضحية والخيانة وغير ذلك، فاستطاعت أن تكون خير زادٍ للإيرانيين في مختلف المناسبات. ومن المناسب هنا أن نذكر أن العالم اللغوي “دهخدا” صاحب معجم ال “دهخدا” وعدد كبير من المؤلفات في اللغة والأدب استطاع أن يستخرج من الـ “شاهنامه” ألفاً وتسعمئة وتسعة عشر مثلاً تداولته الألسن منذ ألف عام وحتى اليوم، وذكر هذه الأمثال في كتابه “الأمثال والحكم”.
جاءت “شاهنامه” الفردوسي في ستين ألف بيت من الشعر، وقسمها الباحثون إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأسطورية، والمرحلة الملحمية، والمرحلة التاريخية، وتنتهي بسقوط الدولة الساسانية وبدء الفتح الإسلامي في منتصف القرن السابع للميلاد. واستطاعت الـ “شاهنامه” تقديم صورة كاملة ومتناسقة وحية ونابضة ليس فقط لتاريخ إيران وتاريخ ملوكها وأبطالها القوميين، بل أيضاً لثقافة الإيرانيين وعاداتهم وتقاليدهم وآدابهم ورسومهم.
د.ميرفت سليمان

تصفح المزيد..
آخر الأخبار