المشهد الثقافي السوري بعد التحرير.. سردية التحوّل وإعادة تشكّل الهوية

الوحدة- ريم جبيلي

مع انبلاج صباح الثامن من كانون الأول 2024، بدا وكأن سوريا قد استيقظت على نفسٍ جديد لم تختبره منذ سنوات طويلة. لم يكن التحرير مجرد لحظة سياسية عابرة، بل لحظة انعطاف ثقافي عميق، تحرّرت فيها المخيلة قبل أن تتحرر الجغرافيا.
في المدن والبلدات التي شهدت التحرير بدأ الناس يستعيدون علاقتهم باللغة، بالفن، وبالساحات العامة التي جرى إسكاتها طويلاً. ومع عودة الناس إلى الفضاء العام، بدأت الهوية تستعيد أنفاسها، ففي الأسابيع الأولى بعد التحرير، عادت الساحات السورية إلى لعب دورها في إحياء شرايين الحياة الثقافية، فانتشرت الأمسيات الشعرية العفوية في حمص وحلب ودرعا، كما لو أن الشعر كان ينام في صدور الناس طوال سنوات وينتظر الشرارة الأولى لينفجر.. ارتفعت موسيقى العود والإيقاعات الشعبية من المقاهي القديمة، وكأنها تعلن عودة عجلة الزمن المتوقّف إلى الدوران.
هذه العودة إلى الفضاء العام لم تكن مجرد احتفال عادي، بل كانت استعادة للهوية الجمعية التي تآكلت بفعل التضييق والخناق. لقد بات الناس يتعاملون مع الثقافة كأداة للتعافي، وكأن الفن هو الخطوة الأولى نحو إعادة ترميم الذات.
نهضة السينما.. الكاميرا توثّق الذاكرة الحيّة
من أكثر المحطات السينمائية حضوراً هذا العام، مهرجان أفلام الثورة السورية، الذي جمع نجوم الفن السوري ورواده في باقة سينمائية مميزة.
وعلى نحو مفاجئ، شهدت دمشق واللاذقية -بخاصة غزارة في إنتاج وعرض مجموعات الأفلام الوثائقية القصيرة.
جيل كامل من السينمائيين الشباب، الذين عاشوا سنوات الحرب أطفالاً ومراهقين، وجدوا أنفسهم أمام فرصة تاريخية لتوثيق ما بقي من الذاكرة وما فُقد، فالكاميرا بالنسبة لهم لم تكن أداة فنية فحسب، بل وسيلة لفهم ما جرى وتقديم سردية بديلة عن سرديات الحاضر والواقع.
وبدأت تظهر مهرجانات على المستوى المحلي، تُعرض فيها أفلام مصنوعة بموارد متواضعة ولكن بنَفَس عالٍ من الصدق.. في كل فيلم، كان ثمة محاولة لإعادة كتابة التاريخ لا من أجل تسجيل الماضي، بل من أجل توثيق ذاكرته في سجل لا يُنسى.
حركة نشر جديدة.. الكلمات تعود إلى التداول
بعد سنوات من القيود والانقطاعات، شهد قطاع النشر حركة غير مسبوقة، فالمطابع الصغيرة عادت للعمل، وامتلأت رفوف المكتبات بكتب جديدة، معظمها شهادات، مذكرات، وبدايات روائية.
ما يميّز هذه المرحلة هو غياب الرقيب الداخلي الذي كان يُثقل على الكاتب السوري لعقود، فالموضوعات التي كانت تعدّ حسّاسة ومحظورة باتت تُناقش علناً في الندوات والمحاضرات والأمسيات.. دون قيود الرقابة وأغلالها.
التراث.. ماضٍ يُعاد إحياؤه
في المدن القديمة مثل تدمر وحلب القديمة ودمشق التاريخية، بدأت فرق من الباحثين والفنانين بتنظيم ورش عمل لإحياء التراث العمراني والفني، إذ لم يعد التراث مجرد بقايا الماضي، بل مادة حية يُعاد تفسيرها ضمن سياق جديد: كيف يمكن لسوريا أن تقف على جذور عميقة وتبقى محافظة على إرثها، وتواكب ركب الحضارة والعصرية؟
التراث الموسيقي، خصوصاً الموشّحات والقدود، عاد ليظهر بنسخ حداثوية تتداخل فيها مع الكلاسيكي، في محاولة لخلق لغة موسيقية جديدة تمثل جيل ما بعد التحرير.
مهرجان البردة.. علامة فارقة
لعل من أكثر المحطات الثقافية جمالاً خلال عام التحرير إقامة مهرجان البردة، ببرنامجه الثقافي والفني المتنوع، الذي جمع بين عبق الشعر وسحر المسرح وروحانية الإنشاد، وسط حضور جماهيري لافت وتفاعل كبير.
تحديات ما بعد التحرير..
رغم كل مظاهر الحيوية، فإن المشهد الثقافي السوري لم يخلُ من بعض العراقيل والصعوبات، فثمة نقاش كبير حول كيفية صياغة سردية ثقافية جامعة، ولاتزال هناك أيضاً فجوة ملحوظة بين المناطق، فبعضها شهدت تعافياً ثقافياً سريعاً وبعضها الآخر لاتزال تعاني من نقص البنية التحتية الثقافية، لكن ما يميز هذه المرحلة، ربما للمرة الأولى منذ عقود، هو استعداد السوريين للاعتراف باختلافاتهم الثقافية كثراء فكري ومعرفي، وهذا بحد ذاته علامة نضج جديدة.
ثقافة الختام
إن المشهد الثقافي السوري بعد التحرير في 8 كانون الأول 2024 ليس مجرد عودة للحياة، بل هو ولادة شكل جديد من الوعي.. لقد صار الفن مساحة للتعافي، وصارت الموسيقى وسيلة لتضميد الذاكرة..
وإذا كان التحرير قد بدأ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً فإن استمراره الثقافي والمجتمعي ركيزة ولبنة أساسية في بنيان الوطن… وفي اللغة التي نختار أن نكتب بها مستقبلنا.

تصفح المزيد..
آخر الأخبار