الوحدة: ١٧-١١-٢٠٢٣
وُجِدَت الفلسفة لتشيع السلام الداخلي قبل أن تشيع السلام الخارجي، فالحكمة التي تنشدها الفلسفة-باعتبارها محبة الحكمة- تتطلب هذا السلام الذي لا يتحقق إلّا بالنظر إلى الأشياء باعتبار حقيقتها، وهذا لا يتيسر لنا إلا بعد خوض خبرات معرفية.
الحكمةُ التي بامتلاكها يستحيل المرء إلى كائن إلهي يملك العالم، ويشارك الخالق في خلاص البشرية من آلامها التي جلبتها لنفسها جراء العبث بفطرية الإنسان وحقيقته المعنوية، والتي أفرزت الحروب وعملت على تشيؤ الإنسان وتسليعه.
نحن بحاجة إلى حكمة الفلسفة، التي إليها تركن العقول القلقة معرفياً، والتي بها تطمئن الأرواح المتعبة من ليل ظلمتها، وما أشبه الفلسفة بضوء الشمس ما أن لامست أشعتها العقل حتى تيقظ وسرت قشعريرة البدء في توليد المعارف وإثارة الشكوك، وأبانت العلل المعرفية وأسبابها فهي الدواء لمن أحسن استخدامها وتوظيفها في كل زمان ومكان للإجابة على تساؤلات العقل، وإدراك غايات الروح، وبالتالي لا تتوقف عند هذا الحد بل تحفِّز العقل البشري باستمرار كونها محرضٍ أمدي، بينما تكون الفلسفة الداء لمن لا يرى فيها سوى وسيلةٍ للشك من أجل الشك ولكل من رضيَّ بالعين الواحدة، واعتمدها خياراً جدلياً لا طائل منه.
وجدت الفلسفة لتحتفل بالحقيقة من خلال تقبّل وجوهها المتعددة، ففي الآراء المتنازعة كل الغنى والتنوع… وجدت الفلسفة لتعلمنا أنّ الخير يكمن في أداء الوظيفة التي رسمت لكل شيء، وأن الكمال لا يتحقق إلا بالاختلاف وإدراكه وتقبّله وإلّا ما بال أفلاطون يصنف في جمهوريته الناس على مراتب أسوةً بالعالم العلوي، فخيريّة القلم في أن يكتب، ولا قيمة للإنسان إن لم يعتل عرش الإنسانية، وخيريّة العقل في التمييز بين الحق والباطل، وفي أن يتأمل ويبدع ألواناً شتى من المعارف، ولا قيمة للروح أن لم تعانق المطلق. فالفلسفة بمثابة كائن حي فعال مؤثِّر ومُتَأثر تنمو بنمو العقل، وتتطور بتطور الروح على حدٍ سواء، فأيُّ نقصٍ في نمو أحدهما سينعكس عليها وعلى ونتاجها العابر للزمان والمكان. وفي حال وُضِعَت الفلسفة موضع الازدراء والتهميش من قبل البعض فهذا راجع لعلّةٍ في الناظر لا المنظور، لم تكن الفلسفة يوماً بعيدةً عن الحياة فقد خرجت من رحم الوجود، حيث كانت الفلسفة انعكاساً حياً للواقع المعاش والمتخيَّل على حدٍ سواء، و يُعتَقد أنّها مهما بلغت من التجريد والطوباويّة التي تؤخذ عليها في بعض محطاتها التاريخية غير أنَّ المُتبحِّر في أفكارها والنافذ ببصيرته قبل بصره، وعقله قبل حواسه سيدرك على الفور أنها تحكي قصة الوجود و الروح التي هي نصف حقيقة الإنسان الجوهرية، فالفلسفة كانت ولا زالت تتدفق من عين الوجود وإليه تعود بصور وأشكال شتى من المعارف والرؤى.
د. ميساء يوسف علي
تصفح المزيد..