الوحدة: 16- 5- 2023
مَن منا لم يقرأ لعظماءِ الفرسِ كالفردوسيِّ وحافظ وسعدي ومولانا ونظامي والعطّار وخاقاني وغيرهم الكثير ممّن تضيقُ القائمةُ عن ذكرِهم؟! هؤلاء وغيرهم الكثيرُ أغنوا التراثَ العالميَّ بميادينَ لم تكن على أهميّتِها لولا أمثالُهم، فلأشعارِهم ومضامينِها تأثيرٌ بالغٌ في الأدبِ العالميِّ بما يعكسُ الحضارةَ الفارسيّة فكراً وفلسفةً بجذورها الضّاربةِ في القدمِ، فقد انتشرَت حضارةُ الفرسِ في المجتمعِ الإسلاميِّ والعالميِّ في مختلفِ الميادينِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ والثقافيّةِ، ولا يخفى على المهتمّين في هذا المجالِ أنّ الفرسَ كانوا من أنشطِ العناصرِ في بناءِ صرحِ الحضارةِ وتراثِها وفقاً لآراءِ النقّادِ، وما كانَ هذا الانتشارُ ليتمّ لولا اللّغةُ الفارسيّةُ، إذ لعبَت دورَ الوسيطِ للوقوفِ على إسهاماتِ الفرسِ في التّراثِ الإسلاميِّ والعالميِّ، فاللّغةُ الفارسيّةُ لغةٌ عريقةُ الجذورِ، وهي لغةٌ آريّة من مجموعةِ اللّغاتِ الهنديّة – الأوروبيّة، أي تلك اللّغاتِ واسعةِ الانتشارِ في الهندِ وأوروبا، وتعودُ تسميتُها بالفارسيّة نسبةً إلى إقليمِ فارسَ، وهو اسمٌ للإقليمِ الجنوبيِّ من إيرانَ، واللّغةُ الفارسيّةُ، تحتلُّ المرتبةَ الثانيةَ في الانتشارِ وعددِ المتكلمين بعدَ اللّغةِ العربيّةِ في الدّولِ الإسلاميّةِ، والمتكلمون بها يتوزّعون بين الصينِ شرقاً والعراقِ غرباً؛ في إيرانَ وأفغانستانَ وطاجيكستانَ وأوزبكستانَ والعديدِ من المناطقِ المتفرقةِ الأخرى، وهي لغةُ الثّقافةِ في شبهِ القارّةِ الهنديّةِ، ولها الكثيرُ من اللهجاتِ. وقد عمدَ الباحثون – من قبيل د. طه ندّا، عندَ الحديثِ عن اللّغةِ الفارسيّةِ وتطوّرِها – إلى تقسيمِ تاريخِ اللّغاتِ الإيرانيّةِ إلى ثلاثِ مراحلَ، هي: الأولى: مرحلةُ اللغاتِ الفارسيّةِ القديمةِ. الثانيّة: مرحلةُ اللّغاتِ الفارسيّةِ الوسطى. الثالثة: مرحلةُ اللّغاتِ الفارسيّةِ الحديثةِ. وأهمُّ هذه اللّغاتِ: اللّغةُ الدّريّة أو الفارسيّة الحديثةُ التي نشأت متأثرةً باللّغةِ العربيّة، واستعملت الأبجديّةَ العربيّةَ، وقد نشأتْ أولَ الأمرِ في خراسانَ – شرق إيران – ثم انتشرت بعد ذلك في أنحاءِ إيرانَ كافةً. ومن الملاحظِ أنّ الأبجديّةَ الفارسيّةَ مشتركةٌ مع الأبجديّةِ العربيّةِ، إلا أنَّ طريقةَ لفظِ معظمِ حروفِها تختلفُ عمّا هي عليه في العربيّةِ، كما أنّ عددَ حروفِها يزيدُ عن العربيّةِ بأربعةٍ، وقواعدُها تختلفُ جذريّاً عن العربيّةِ نحواً وصرفاً، ولكن بابَ التأثّرِ والتأثيرِ المتبادَلِ بينها وبينَ العربيّةِ – فضلاً عن التركيّةِ والأورديّةِ – كانَ مفتوحاً على مصراعيه، فانتقالُ التّراثِ الأدبيِّ والمضامينِ الشّعريّةِ والألفاظِ بينهما كان محطَّ الملاحظةِ والاهتمامِ منذ القِدم، وهو ما فرضَه الاختلاطُ والامتزاجُ بين العربِ والفرسِ قبل الإسلامِ وبعدَه، إذ قامَت علاقاتٌ وروابطُ سياسيّةٌ وتجاريّةٌ بينهما أدّت إلى نوعٍ من التبادلِ الثقافيِّ بينَ اللّغتين. وقد اختارَ المجلسُ الأعلى للثّورةِ الثقافيّةِ الإيرانيّةِ يومَ الخامسَ عشرَ من أيارَ لتكريمِ اللّغةِ الفارسيّة، وهو يومُ تكريمِ الشّاعرِ العظيمِ الفردوسيّ صاحبِ ملحمةِ “الشّاهنامة” التي صُنِّفت كأحدِ أهمِّ الأعمالِ الأدبيّةِ العالميّةِ، والتي كانَ لها دورٌ لا يمكنُ إنكارُه في حفظِ التراثِ الفارسيِّ وإحياء اللّغةِ الفارسيّة التي كانت بدورِها – ولمّا تزل – كنزاً يحفظُ للعالمِ ذاك التّراثَ الأدبيَّ والعلميَّ الجمَّ، وشعلةً تزدادُ اتّقاداً وسموّاً في عالمِ الأدبِ وصناعةِ الحضارةِ.
د.بثينة شموس