الوحدة 15-5-2023
تحتفظ الذاكرة الجمعية للشّعب الإيرانيّ بإرث مادّي ومعنويّ يفاخرون به أمام بقيّة الشّعوب ، هو (الشّاهنامة). كمايمجّدون مبدعه شاعرالفرس العظيم”الفردوسي”.
كانت طُوس مسقط رأس أبي القاسم منصور، سنة329ه،في عائلة دهقان، أكبر مالكي البساتين اليانعة كالفردوس ،ولعلّ هذا يفسّر لقب “الفردوسي”، وهناك مَن ذكر أنّ السّلطان محمود توّجه به لجزالة شعره. كثرت ألقابه فهو: هوميروس إيران، و أبو الشعر الفارسي،و شاعر الحريّة.
كان نوح بن منصور السّاماني أحد أمراء السّامانيين، أوّل مَن اقترح نظم الشّاهنامة لحفظ أمجاد الفرس وبطولاتهم، فبدأ الشّاعر أبو منصور الدّقيقي بنظمها، لكنه قُتل ولم يُنهِ إلّا ألف بيتٍ تقريباً،فكُلّف الفردوسيّ بإتمام هذه المهمّة الجليلة.
تجلّى نبوغ الفردوسيّ في رائعته (الشّاهنامة) التي تعني:كتاب الملوك،أو كتاب التيجان. وهي بحقّ، تاج الكتب.جاءت في ستّين ألف بيتٍ شعري بديع.امتزج فيها الواقع مع التّاريخ مع المغامرة، والشّعر بالنّثر والأغاني، لتكون أطول قصيدة في تاريخ البشريّة،ويبلغ حجمها سبعة أضعاف ملحمة هوميروس.
ظهرت فيها ثقافة الفردوسيّ الواسعة؛ فقد اطّلع على الشّاهنامات السّابقة، وخزّنت ذاكرته المرويّات الشّفويّة في أخبار الملوك والأبطال، كما تأثّر بكتاب(الأفستا)، أقدم وثيقة تاريخيّة مكتوبة ضمّت أجزاء من أساطير الفرس القديمة.
استوعب الشّاعر تلك الذخيرة، وخصّ شعوب فارس بهذه الملحمة التي صاغها شعراً، بأسلوبٍ بسيطٍ موجزٍ بعيدٍ عن التّزويق الّلفظيّ، والحشو المملّ، وقد وصل إيجازه فيها حدّ الإعجاز.
وضِعت شاهنامة الفردوسيّ في موازاة الأوديسّة والإلياذة،و رسالة الغفران، والكوميديا الإلهية، وجاءت على شكل شعرٍ عموديّ مقفّى بموسيقيّةٍ مرهفة، و رصدت تاريخ أكثر من خمسين ملكاً. ولعلّ الذي حافظ على شاهنامة الفردوسيّ من الانقراض و الضّياع كسابقاتها،هو قوّة بيانها و جزالة عبارتها.
ممّا يضاعف قيمة الشّاهنامة أنّها منظومةٌ زاخرةٌ بالدّروس والحكم الأخلاقيّة والتّهذيبيّ كقوله:(العقل زينة الأبرار..وهو أصل الحياة..فاتّخذِ العقل مرشداً..لأنه يصونكَ من الهلاك).تمثّل الشّاهنامة ثقلاً قوميّاً كبيراً للإيرانيين، ولاسيّما أنّها حفظت الّلغة الفارسيّة، فكان الفردوسيّ حارسها الأمين، وهناك مَن قال: (لولا شاهنامة الفردوسيّ لَهلكت لغة الفرس)،ليتحوّل ميلاد الفردوسيّ في15من أيّار،إلى يومٍ للاحتفاء باللغة الفارسيّة.
تأثّر بالشّاهنامة كبار أدباء أوروبا ؛كالفرنسيّ لامارتين ،و أثنى عليها الألماني غوته،وعنها قال البروفيسور رستم عليوف:(الشّاهنامة موسوعةٌ تتحدّث عن ثقافة الشّعب الإيرانيّ، وعلمه وفنّه وتاريخه القديم،
نُقلت الشّاهنامة إلى العربيّة نثراً على يد (الفتح بن علي البنداري),وهنا نشير إلى علاقة الفردوسيّ الوثيقة بالعربيّة؛فقد كان متبحّراً في الأدب العربيّ والبلاغة والكلام،ولعلّ أشعاره ولقبه(الحكيم) يؤكّدان هذه الحقيقة.
لقد أمضى الفردوسيّ مايزيد على ربع قرنٍ من عمره في نظم الشّاهنامة،ولم يأخذ حقّه من التّقدير حينها،لكنّها ضمنت له الخلود والشّهرة على مرّ الزّمان والتّاريخ.
د. رباح علي