الوحدة: 11- 4- 2023
بين الإنسان والمكان علاقة وثقى وهو جزء من وجوده وكيانه، ويمكن توظيفه لوصف جبهات الحياة جميعها التي تحصل فيها الأحداث والوقائع التي تروي ما يجري بدءاً من الهم الاجتماعي إضافة إلى العادات والتقاليد والجبال والأرض المنبسطة الممتدة طولاً وعرضاً، وهو أحد أبواب الأدب يمكن من خلاله معرفة ملامح الحياة الاجتماعية والفكرية للمجتمع والعودة بالذاكرة إلى الأيام الخوالي لتعرية أحداث تاريخية تراكمت عليها العصور والدهور، يضيف الجمال ويضفي تجلياته على النص ليظهر وكأنه سيرة ذاتية للمكان .. في شعر نزار قباني يظهر الحضور الطاغي لدمشق كمكان وكعشيقة أبدية ما برحت تحفر في صوته وجسده: (هذي دمشق وهذي الكأس والراح- إني أحب وبعض الحب ذباح – مآذن الشام تبكي إذ تعانقني – وللمآذن كالأشجار أرواح).
العملية الإبداعية تشكيل جديد للكون والحياة وفق منظور المبدع ورؤيته للأشياء من حوله ومقاربته للمكان بما ينطوي عليه من دلالات ومحمولات وإضفاء جماليات واسعة على الجغرافيا، والفضاء الإبداعي هو البيت والشارع والشمس والمدينة والقرية والحقل والنهر والجبل والبحر، والمكان هو العنصر الأهم للتكوين الشعري والروائي، عالم مليء باللذة والغموض والحلم يحضر متباهياً معتداً بنسائه ونبيذه وأغانيه وأشجاره وأيائله وسحره ولا يمكن للإنسان أن يعرفه إلا إذا اكتشفه من الداخل .. يقول عبد السلام العجيلي: (ولدت في الرقة، بلدة صغيرة، أو قرية كبيرة على شاطئ الفرات بين حلب ودير الزور، كان أغلب أهلها يعيشون حياة نصف حضرية، في الشتاء يقيمون في البلدة وإذا جاء الربيع خرجوا إلى البادية يرعون فيها أغنامهم ويتنقلون بين مراعي الكلأ حتى أوائل الخريف وقد عشقت هذه الحياة فأثرت في كثيراً وقبست منها ما كتبت).
الكتابة عن المكان هو التقاط اللحظة المدهشة من جمالياته وإعادة تشكليها بأسلوب ومعطيات دلالية جديدة وكشف ما لا يظهر للعيان والعلن والكثير من الأدباء كتبوا عن الأمكنة بأقلام لها شكل معول أو مبضع أو منظار، وهناك من كتب بالفرشاة والإزميل كلوحة أو منحوتة .. المكان الإفريقي عالم حار وطازج، متاهة الدخول في الصحاري الشاسعة والحقول والأدغال الكثيفة والبحيرات المخيفة، أمكنة تضم أثنيات وثقافات متعددة داخل بيئات جغرافية ومناخية خاصة انعكست على حياة شعوبها، يدوخ القارئ بين الواقع والخيال والخرافات والحكايات والحيوان والأساطير والبحر ، التأقلم والحياة فيه أشبه بعمليات بتر الأذرع والسيقان، أرض عاقر وحمى ولا حبل ووجوه يتصاعد منها اللهب تبدو الدنيا لناظرها حمراء كعين الجحيم، لفحات صحراء كاوية كفأس تعزق الأعصاب وشمس تصفع الوجوه بلا رحمة أو شفقة وتسكب شظاياها على الرأس فتشجه.
عندما يكل الربيع ناشراً أنفاسه العطرة منشداً أغاريد الحياة المتجددة بعد هجعة شتاء كئيب طويل يبدو المكان كأرض مفروشة بزهر مهروس، سماء صافية الأديم مرتكزة على عمد الجبال تسمح لأشعة الشمس التي تطل ملوحة بجدائلها الذهبية التي خرجت من كهوف العتمة أن تحتضن الكون المغرور وتدفئه بعد أن عبثت به يد الشتاء، وهواء نقي غض يداعب الوجه كقبلة طفل رضيع، وصليل آلاف العصافير على الأشجار وخرير مياه يهدهد الآذان بدون انقطاع وينابيع كأمهات ترضع الأشجار نسغ ثدييها.
البحر مثل الإنسان في تقلبه المزاجي ما بين رضى وسرور، وحنق وغرور، يصفو ثم يغلي.
نعمان إبراهيم حميشة