العدد: 9343
9-5-2019
بأمومة خالصة تعيّد الأمهات، للأمهات في الأعياد طقسٌ آخر، بخلايا الروح ونبض الذاكرة يكتبنَ أسماءَ فلذاتِ أكبادهن، ممن ارتقوا شهداءَ وقديسين، صاعدين صاعدين من خضرة القلوب إلى زرقة السماء، الهفهافة بالإيماءات المموهة، دون تلويحة وداع، يرحل الأحبة، نوارس وطن، وسياج محبة..
أم الشهيدين (المجد وذو الفقار، ذو الفقار المدلل، آخر العنقود) اللذين رحلا مع أطهار كثر، قربانَ فداء لعيون الوطن..
أم الشهيدين أسقطت من القلب دمعة، لا تشبه الدمعات، حين أصرّت أن تمضي، مع وجعها المبرح، إلى مقبرة الشهداء في عيدهم، وهي على سرير المرض، في مشفى تشرين، في الطابق السابع..
السواد يلفّ قلبها، والعزة والفخر تكحل عينيها، قلبها يحكي، وروحُها تستحضر نورَ وجهيهما وتفاصيل عريسين، زفتهما في يوم واحد، على أرض الغوطة، عند تحريرها من السواد الذي لفها لحين، فقط (لحين)..
أم الشهيدين، أمهات الشهداء في كل مكان، جرحكم جرح وطن و(عيلة وطن) تتعالى وتسمو على جراحها، جراحكم تحيل صقيعَ أرواحنا إلى نور ونار .
هو سر الأرض، وشهقة التراب حين يتماهى الدم، من أقصى الوجع، ويوغل في قلب التاريخ..
الشهادة صناعة الأحرار، والشهادة لا تليق إلا بالأحرار، الأرواح الحرة، الأجساد الحرة، المنطلقة من عمق فلسفة الوجود، هي وحدها التي تأخذنا نحو سماواتِ الدهشة والفرح القدسي، وإلى نبل العطاء وكرَم الأرواح وَجُودها..
لكن، وللأسفٍ، ثمة في الضفة الأخرى، ركامٌ أسود وغبارٌ قاتل، لابد منه، في سيرورة الزمن المظلم، من الروح البشرية، ومع الركام أرواحٌ قذرة، تبحث في تلال الحطام، عن الحطام والقذائف والعظام الآدمية، تمرغ أقنعتها المكشوفة بوحل الخارج الآسن، وتتساءل عشية عيدهم الأنقى والأرقى: من فتح فانوسَ وطننا السحري نحو أفق العدم، نحو الفراغ الذي يتلوه فراغ، ربما هو القدر، أو هو مارد الفوضى، وقف على تلّ الجماجم، ونادى هادراً: أنْ خذوا المزيد من الدم الممهور، على إيقاع الموت الهائل، ومعه نذير طبول، تقرع في أذن الريح الصفراء، الهوجاء..
الحياة دائماً أقوى من الموت، هكذا هي لغة الحياة، حين تعبر بإصرار سراديبَ ضجيج الموت، ومن الحياة نستمد القوة، الشهادة في سبيل الأوطان قوة، والتفاؤل ومعه الأمل بغدٍ آخر هو قوة القوة، وما من وطن ينتصر إلا بعقول أبنائه وسواعدهم ودماهم الذكية، هي مشيئة الحياة لوطن لا ينحني، رغم العواصف العاتيات..
ومن عيون الأمل، لا بدّ، بل حتماً، أيتها الأم العظيمة، أم (ذو الفقار والمجد) سوف تتراءى شواطئ الأمان والازدهار والاستقرار..
هي هزة وتمر، أو أنها حقيقة مرّت، لكن.. الصخور والجبال وعنفوانكِ، وعنفوان أمهات الشهداء تصرخ بعناد: (يا جبل ما تهزك ريح) ويا وطن ما تهزك ريح، والضربة التي لا تقتل إنما تزيدنا قوة وإصراراً وعزيمة لا تلين، ولأجلك يا أمنا ولأجلهم، على تخوم الفجر نزرع نجمتين، ونرسم هزيعاً بأزرار الورد والغار والجلنار، نرسمها على شواهد القبور ومعها أسماؤهم المحفورة من نور ونار ودم وبخور ودعاء..
وعلى يقين، فإن كل التقاويم والمال والنفط والسياسة وعلوم الاقتصاد والمجتمع وفلسفات البشر كلها إنما تسقط على حافةِ ضريحٍ من نور، وقبل أن تهرولَ الشمسُ نحو المدن وباحاتِ المدارس ومعاول الفلاحين، نردد مع وخلف ظلال الشمس، نشيدَ الشهادة، ومعاً، قلباً يجاور قلباً، ودماً يعطر دماً، نتابع السيرَ خلف منارة تأخذنا، بثقة الربان، إلى أعالي المجد، لنعودَ معاً، من جديد، وبكل فرح ومحبة، كي نمارس طقوسَ الحياة، ونقلب تقاويمَ الكرامة على ملاعب النهار..
جورج إبراهيم شويط