ماهي حقيقة انخفاض مياه البحر المتوسط؟

الوحدة : 3-3-2023

الأستاذ الدكتور أديب سعد

خبير في علم المحيطات والتنوع الحيوي البحري يوضح لماذا انحسرت مياه البحر المتوسط على كل شواطئه دفعة واحدة، وفي ظاهرة غير معهودة، في الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن عواقب الاحتباس الحراري، وخاصة ارتفاع منسوب المياه الذي يهدد بالقضاء على مدن ودول بأكملها، يحدث شيء آخر في البحر الأبيض المتوسط وهوانخفاض مستوى سطح البحر بمقدار 30 – 50 سم على بعض الشواطئ منذ 9 شباط ، ولم يبدأ باستعادة وضعها إلا بعد مرور أكثر من أسبوع إلى أسبوعين، و لم أقرأ تحليلاً وافياً حول سبب انخفاض مستوى سطح البحر المتوسط بجوانبه الأربعة في آن واحد.

ما سأتحدث عنه هنا يقتصر فقط على ظاهرة انحسار مياه البحر المتوسط وأسبابها المفترضة والتي لم تأخذ حقها بالتفسير حتى الآن بشكل كاف، وسأطرح هذه الفرضية للنقاش في اجتماع خبراء البحار والمحيطات الذي سينعقد في مقر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) في باريس خلال الفترة 20-24 آذار الحالي، حيث دعيت للمشاركة في هذا الاجتماع من قبل المنظمة الأممية.

لقد تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد تراجع مياه البحر وانخفاض مستواه، بمحاذاة الخط الساحلي في كل الدول المطلة على البحر المتوسط من أقصى الشرق (سورية ولبنان وتركيا ) إلى أقصى الغرب الجزائر والمغرب، وكذلك أقصى الشمال ( إيطاليا وفرنسا )، وهو ما أعاد إنتاج تلك المخاوف التي غذتها تصريحات تركية متسرعة بعد وقوع الزلزال، تم التراجع عنها سريعاً. وكل ما سأذكره لا يدعو إلى الخوف إطلاقا وإنما من منطلق علمي بحت لتفسير أسباب انخفاض مستوى سطح البحر.

لقد أرجع غالبية المحللين والمختصين في علوم الجيولوجيا والمناخ الذين أدلوا بدلوهم سواء في دول جنوب البحر المتوسط أو شماله، أن أسباب انحسار مياه البحر المتوسط بكل جوانبه وانخفاض مستوى سطح البحر لأكثر من 50 سم إلى الأسباب التالية إما مجتمعة أو متفرقة:

– ظاهرة المد والجزر.

– ارتفاع الضغط الجوي نتيحة المرتفع الجوي المسيطر على البحر المتوسط في بداية شهر شباط، نتيجة الزلزال حدث تخلخل في الصفيحات التكتونية مما أدى إلى اضطراب في حركة مياه البحر (وهذا تحليل البرفسور فاروق الباز).

– انخفض هطول الأمطار بشكل كبير (هذا التحليل لخبراء فرنسيين وآخرين).

– هذه كانت أهم الأسباب التي أسند إليها انحسار مياه البحر المتوسط على مدى أكثر من أسبوعين، لكن برأينا المتواضع هذه المبررات غير مقنعة لوحدها وذلك للأسباب التالية:

– ظاهرة المد والجذر لا تحدث كلها بنفس الوقت على كامل شواطئ البحر المتوسط بل عندما تكون الشواطئ الجنوبية بحالة جذر ( أي انحسار المياه ) تكون الشواطئ الشمالية بحالة مد ( أي ارتفاع منسوب مياه البحر)، والعكس بالعكس، لكن الذي حدث هو مخالف لهذه القاعدة تماماً وانحسار المياه عن كامل شواطئ المتوسط بمسافات متفاوتة تراوحت بين 20 و 200 متر (حسب الطبيعة الجغرافية لكل شاطئ).

ويضيف الدكتور سعد : إن تاثير الضغط الجوي المرتفع فوق البحر المتوسط الجوي والإعصار القوي المضاد في البحر الأبيض المتوسط لا يؤدي إلى هذا الانخفاض الكبير في مستوى سطح البحر ولا على كامل أرجائه، علماً أن حالات الضغط المرتفع تحدث سنوياً في مثل هذه الفترة تقريباً ولم يلحظ لها مثل هذا التأثير القوي في خفض مستوى سطح البحر وانحسار المياه لمسافات طويلة ( 50 – 200 متر عن اليابسة) ، حتى أن القنوات المائية في مدينة البندقية في إيطاليا قاربت من حالة الجفاف وأصبحت عبارة عن مجارٍ موحلة، ولم يعد السكان يستطيعون الوصول إلى منازلهم بواسطة القوارب كالمعتاد، وهذه الظاهرة نادرة الحدوث.

– انخفاض كمية الأمطار خلال الأشهر الماضية ( كما صرح به خبراء فرنسيون في المناخ) فليست هذه أول مرة تنخفض بها الأمطار ولفترات أطول، رغم أنه بالفعل تسبب انحسار الأمطار بشدة هذا العام سبب انخفاض مياه الأنهر وجفاف ينابيع وعطش الأرض، إلا أن تأثير هذه الظاهرة على مستوى حجم مياه البحر يكون بطيئاً وقليلاً وعلى فترة طويلة وليس فجأة، وعادة لم يلحظ أثرها سابقاً لأن تيار المياه القادم من المحيط الأطلسي والتيار القادم من البحر الأسود يعوضان هذا النقص الناتج عن قلة الأمطار وتدفق الأنهار أولاً بأول.

من ناحية ثانية لو كان السبب هو فعلاً انخفاض كمية الأمطار والجفاف فإن انخفض مستوى سطح البحر سيستمر ما دام الجفاف مستمراً والأمطار معدومة، لكن الذي حدث هو العكس حيث عاد البحر إلى مستواه السابق تقريباً في كل المناطق.

– توجد بالفعل دورة موسمية، يتم الوصول إلى الحد الأدنى منها في شباط وآذار كل عام، هناك انخفاض يبلغ حوالي 10 سنتيمترات في هذا الوقت. انخفاض معتاد بسبب درجة حرارة الماء في الشتاء التي تنقبض عندما يكون الجو بارداً. لكن هذا لا يكفي لتفسير الانخفاض الكبير في المستوى الذي لوحظ في بداية شهر شباط.

انطلاقا من كل ما سبق، ومع القبول بالتأثير ات العادية الروتينية على ارتفاع وانخفاض مستوى سطح البحر المتوسط بمستويات أقل بكثير مما لوحظ بعد الزلزال، وبالتناوب بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب. فإني أفترض الآتي:

1- نتيجة تصادم الصفيحة العربية مع صفيحة الأناضول والصفيحة الإفريقية وحدوث انزياح باليابسة بنحو 3 إلى 5 أمتار وعلى مسافة 100 كم كما ذكر الجيولوجيون، فلربما تشكلت جيوب كبيرة في البحر أو توسع في الحوض البحري (وهذا يمكن إثباته من خلال دراسة صور الأقمار الصناعية بالتتابع قبل الزلزال وبعده، ودراسة القيعان البحرية أيضاً بأدوات السبر والتصوير تحت البحري في منطقة شرق المتوسط ومقارنتها بالحالة التي كانت عليها قبل الزلزال)، وهذه الجيوب والتوسع احتاج إلى كميات كبيرة من المياه لتعبئتها مما أدى إلى انخفاض حجم مياه البحر المتوسط نظراً لأنه بحر شبه مغلق تتجدد مياهه بشكل رئيسي من المحيط الأطلسي عبر مضيق جبل طارق ( بنسبة نحو 75% ) ومن البحر الأسود عبر مضيقي البوسفور والدردنيل بنسبة نحو 11 % (ويأخذ نصفها بتيار معاكس) بينما لا تعوض الأنهر إلا نحو 3.5 بالمائة والباقي من مياه الأمطار). وقد احتاج ورود كميات المياه الكافية من المحيط الأطلسي لتعويض النقص بواسطة التيار الأطلسي الرئيس الوارد عبر مضيق جبل طارق عدة أيام ( وهذا يمكن إثباته أيضاً من خلال قياس سرعة التيار المحيطي الوارد عند مضيق جبل طارق ومقارنة كمية التدفق قبل الزلزال وبعده، علماً أن هناك سفن أبحاث علمية موجودة بشكل دائم في تلك المنطقة أمريكية وبريطانية وإسبانية، وكذلك قياس اختلاف تدفق التيار البحر العابر من غرب المتوسط إلى شرقه عبر المضيق الفاصل بين جزيرة صقلية وشمال تونس بهدف التحقق من وجود اختلاف في كمية تدفق التيار المائي وسرعته قبل وبعد الزلزال.

– هناك احتمال آخر أيضاً قد يكون رديفاً وهو نتيجة الزلزال القوي حدث انتقال كميات ضخمة من مياه البحر المتوسط عبر التيار المعاكس الموجود أصلاً تحت التيار الأطلسي مع انخفاض هذا الأخير بنفس الوقت خلال الزلزال وبعده بفترة معينة، وقد استغرقت عودة تدفق المياه من جديد إلى البحر المتوسط بعد انتهاء مفعول الزلزال عدة أيام لتعويض النقص في كمية المياه المفقودة وفق مبدأ الأواني المستطرقة.

وهذه الفرضية أيضاً يحتاج إثباتها إلى تحليل تتابع زمني لتدفق التيار الأطلسي القادم إلى البحر المتوسط والتيار المتوسطي (الأقل حجماً في العادة) الخارج من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي.

في جميع الأحوال سيتم طرح هذه الفرضيات وغيرها في اجتماع خبراء المحيطات الذي سيعقد في مقر منظمة اليونسكو بعد ثلاثة أسابيع، و من خلال تقاطع وتكامل الخبرات تتوضح الأمور أكثر ويتم وضع المهتمين بنتيجة تلك المناقشات العلمية.

هلال لالا

تصفح المزيد..
آخر الأخبار