الرسوم الجدارية في مرحلة ما قبل التاريخ في سورية

العدد: 9339

25-4-2019

لكل مدينة وحضارة شواهد وآثار ودلائل عليها وعلى أماكن وجودها ومدى تطورها ورقيّها، وبالطبع فإنّ في هذه الشواهد والآثار ما يسبب المتعة في البحث للكشف عن أسرار تلك الحضارات وما خفي منها، وهكذا فللحضارات القديمة أوابد ومشاهد وبعض اللقى والأدوات والمواد الدالة عليها وعلى درجة حضورها الزمني وتطوّرها وتقدّمها.
كتاب (الرسوم الجدارية في مرحلة ما قبل التاريخ في سورية) ما بين عامي (1100 ق .م و 300 ق.م) لمؤلفه الدكتور غطفان حبيب, صادر عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب، في /224/ صفحة من القطع العادي.
الكتاب موزّع بعدد صفحات المقدمة والمدخل، إلى خمسة فصول فخاتمة ثم مصادر ومراجع الكتاب فالفهرس.
من المقدمة نستطيع القول: إن جميع الأدوات التي عثر عليها في المواقع التاريخية القديمة صنعت بسبب الحاجة إليها، لكنّ الأهمّ على الإطلاق فيما تركته هذه الحضارات هو تلك المنتجات الفنيّة التي تدلّ على مستواها الفكري ودرجة رقيها، كما تدل على تجاوز مبدأ صناعة أشياء من أجل العيش فقط، بل من أجل التذوق الجمالي والتزيين (كالرسوم الجدارية).
إنّ أهمية الرسوم الجدارية القديمة – كما يذكر الباحث حبيب – هي في أنها لم تصنع لحاجة فيزيولوجية وإنّما صنعت لحاجة عقلية وفكرية، وهو ما يعطيها تميزاً خاصاً يدفعنا للتفكير جدياً بدراستها لكي نعود من خلال آلاف السنين عبر الزمن علّنا نستطيع الولوج إلى عقول راسميها ومعرفة طريقة تفكيرهم ومقدار تطورهم، وعلّنا أيضاً نستطيع أن نعيش معهم ولو جزئياً من خلال تحليلنا لرسومهم ومعرفتنا لشيء عن تفاصيل حياتهم من خلال فك رموز تلك الرسوم، وقراءة المرحلة التي سبقت التاريخ، وربط الرموز مع بعضها البعض لتؤلف من خلال الرسوم الجدارية القديمة رؤية ولو جزئية عن منطقتنا في تلك الحقبة الغابرة من الزمن ولعلنا أن نجد الرابط الأقوى بين تلك الحضارات القديمة التي كانت سائدة وقتئذ، لأنّه لم تكن هناك وسيلة لنقل الفكر الحضاري عبر الأجيال بسبب عدم وجود أداة نقل هذا التفكير (كالكتابة واللغة) فكانت هذه الرسوم هي أداة النقل للفكر من جيل إلى آخر، وبشكل أوسع لتخليد تقاليد الحضارات القديمة وطقوسها من خلال تجسيدها على شكل رسوم على الجدران ظلّت قائمة تحكي عن ذلك منذ ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا.
لقد اختار المؤلف الدكتور عطفان أن يكون كتابه هذا حول تلك الرسوم الجدارية القديمة المكتشفة في مناطق عديدة من سورية وحول تقنيتها وموضوعاتها ورموزها وأهميتها والدوافع التي أدت إلى رسمها، وحول كل ما يتعلق بها من الناحية الفنيّة والتقنية والعلمية, ويشير الباحث المؤلف إلى أن عدداً من هذه الرسوم الجدارية في سورية تحتوي على عدد من الألوان بمعنى أنها تصوير جداري.
وليست رسوماً فقط ولكنّه أطلق عليها اسم الرسوم الجدارية من منطلق التسمية الشائعة لجميع رسوم ما قبل التاريخ في جميع أنحاء العالم.
لقد بدأ الباحث دراسته هذه من الألف الحادي عشر قبل الميلاد من تاريخ التأسيس لانطلاقة ثورة الرموز الفنية في منطقتنا والتي شكّلت بداية لتلك الرسوم الجدارية.
الرسوم الجدارية هي من أقدم أنواع الفنون, لذا فقد خصص الباحث دراسته حول أقدم الرسوم الجدارية المكتشفة في سورية لما لها من أهمية تاريخية، وكونها أسهمت في تشكيل أولى الخطوات في مسيرة الفن في سورية، والتي ما زالت طي الكتمان حيث أنّها لم تعرض بعد، ومن هنا تأتي أهمية عرضها وتحليلها، والكتاب من المحاولات الأولى في تصنيف مواقع الرسوم الجدارية في فترة ما قبل التاريخ، كما وتكمن قيمة هذه الأهمية في أن بعض هذه الرسوم تعد الأقدم من نوعها على مستوى العالم حتى الآن.
لقد قام الدكتور غطفان حبيب في مستهل كتابه بدراسة الرسوم الجدارية فنياً وتقنياً وتاريخياً، وقد شملت الدراسة جميع الرسوم الجدارية المكتشفة على أراضي الجمهورية العربية السورية والتي تعود إلى فترة ما قبل التاريخ (أي من أقدم لوحة جدارية مكتشفة في سورية، وصولاً إلى بداية التاريخ – أي الألف الثالث قبل الميلاد وهي رسوم منتشرة في مواقع عديدة ولكنّها بمجملها تتوزّع في حوض الفرات على ضفاف نهر الفرات ورافديه الخابور والبليخ) أي في منطقة الجزيرة السورية.
بدأت الدراسة بعرض وافٍ لسورية في فترة ما قبل التاريخ وكيف تشكّلت الحضارات السورية القديمة وتعاقبت على هذه الأرض، والفترات التاريخية لهذه الحضارات، والتعريف بأهم الفنون التي سادت في تلك الحقبة من الزمن، وأنواع هذه الفنون وكيف تطّورت وارتقت وصولاً إلى اختراع الكتابة وبداية التاريخ.
حوّل الباحث الدكتور غطفان بعد ذلك دراسته إلى دراسة تخصصية اهتمت فقط بالمواقع السورية القديمة التي عثر فيها على رسوم جدارية، حيث قام بوضع مخطط تفصيلي لكل موقع من تلك المواقع، وخرائط لتلك المواقع وصور لها ومعلومات عن كل موقع من حيث عمره ومكانه ومساحته واللوحات الجدارية التي اكتشفت فيه، ثم قام بدراسة تفصيلية لكل لوحة جدارية من الأقدم إلى الأحدث زمنياً، وهي الخطوة الأهم في البحث حيث شملت الدراسة مقاسات اللوحة وعمرها وعناصرها وألوانها وتقنية تنفيذها والرموز المؤلفة لها ووصفاً عاماً للوحة ومحاولة لمعرفة سبب رسمها وكل ما يتعلّق بها، إضافةً إلى شرح حول التقنية القديمة في الرسوم الجدارية بشكل عام . ثم حول التقنية التي اتبعت في رسم اللوحات الجدارية القديمة المستخرجة في سورية كل على حدة.
وجاء الحديث أخيراً عن دور تلك الرسوم الجدارية القديمة في الصياغة التاريخية، ودورها في التطور الفني عبر مرحلة وكيف توارثتها الأجيال وصولاً إلى زمننا هذ، وتبيان دورها أيضاً في التطور الفكري والحياة الاجتماعية للحضارات التي صنعتها، والتأكيد أيضاً على أهمية هذه الرسوم وكيف أنها شكلّت الوسيلة المهمة في نقل الفكر الحضاري وطرائق العيش وطقوس العبادة من جيل لآخر.

بسام نوفل هيفا 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار