الوحدة : 27-1-2023
بقانون : لا تشكر إلهاً لا تحبه..
وبشعار : ارم سلاحك، وتناول معولك واتبعني لنزرع المحبة والسلام في كبد الأرض.
كانت أوغاريت السورية الأبجدية الحية من باقي الحضارات، فهي ليست أقدم أبجدية مكتوبة في التاريخ الإنساني القديم، بل تعتبر ألف باء اللغات العالمية ومركز إشعاع حضاري للإنسانية في كل زمان ومكان.
عن هذه المملكة السورية العظيمة تحدث الباحث السوري المسمى بعاشق أوغاريت ومدير المدينة الأثرية الدكتور غسان القيم قائلاً : لطالما بعثت الآلهة من معبد المدينة رسالة محبة وسلام إلى العالم مفادها “اسكبي السلام في كبد الأرض، والعسل في قلب الحقول …” كانت وستبقى تنبض بالحياة والحيوية، قافلة طويلة من علماء اللغات والمنقّبين والعمال وكل من كان له الفضل في الكشف عن مكنونات هذه الحضارة العظيمة .. منهم من رحل عنا ومنهم لم يزل حياً بيننا، ومن أهمهم ابن قرية رأس شمرا الفلاح السوري “محمود الملا الزير” ليكون الرجل المرصود، والذي أهلته المصادفة السعيدة عبر الحراثة حين كان يستنبت خير الأرض للعثور على تلك المدينة التي خرجت من رحم الأرض بعد سبات عميق دام لأكثر من ثلاثة آلاف عام ليخلد اسمه كما خلد أسماء ملوك أوغاريت.
أربعة وتسعون عاماً مرت على اكتشاف المملكة نتوقف على عظمة العطاء الذي لم ينقطع، وعند خلود الحرف والكلمة ومفاتيح المعارف والعلوم والفنون والحضارة الأولى، من هنا، من أوغاريت، من هذه الأرض السورية المباركة كانت أول حبة قمح زرعتها أنامل امرأة سورية، لتنتج حضارة ” رغيف الخبز ” وقدمتها لكل جائع أضناه البحث عن لقمة عيشه فكانت بداية الثورة الزراعية الكبرى.
أوغاريت المملكة بوابة المحبة والسلام كانت بمنأى عن التحالفات والهيمنات الموجودة آنذاك عند الممالك والامبراطوريات الكبيرة التي كانت تسعى للهيمنة والتوسع، أوغاريت المملكة فضلت أن تبقى بعيدة عن هذه التحالفات، وأن تكون علاقاتها مبنية على أساس حسن الجوار والمحبة، وأن تحمل عبر تاريخها الطويل رسالتين : رسالة الهداية الكبرى من الروحانيات والتأمل والوجدانيات ورسالة الفكر والإبداع الأبجدية والمعرفة،
رسالة عشتار وإيل التي انطلقت منذ أكثر من أربعة آلاف عام تشع حضارة ومدنية وإبداعاً، أربعة وتسعون عاماً على أعمال الكشف والتنقيب الأثري في المملكة وما أنتجته هذه السنوات من معطيات ومكتشفات مذهلة ورقم فخارية تجاوزت السبعة آلاف رقيم فخاري نتج عنها دراسات وترجمات استدعت الكثير من العلماء والمؤرخين لإعادة النظر في الكثير مما كتب سابقاً عن تاريخ هذه المنطقة قبل اكتشاف أوغاريت وغيرها من الحضارات والممالك التي نشأت على الأرض السورية المباركة مثل ” إيبلا وماري”، أوغاريت بعد أربعة وتسعين عاماً على الاكتشاف العظيم لاتزال أكثر من ثلاثة أرباع تلها الأثري مساحة يرقد تحت التراب، وما يحتويه من مكنونات أثرية وتاريخية، هذه المساحة تحتاج منا إلى مئات السنين من أعمال التنقيب الأثري والبحث العلمي، إذ أن ترجمة آلاف الرقم الفخارية التي تم العثور عليها لاتزال قيد الدراسة والترجمة، وتحتاج إلى وقت وجهد كبيرين لترجمتها، ومع كل لوح جديد تتم ترجمته يزيدنا معرفة بهذه الحضارة العظيمة ليحدثنا عن حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والروحية خاصة خلال الفترة الذهبية لازدهارها خلال الألف الثاني قبل الميلاد وما قدمته من عطاءات حضارية كبيرة لم تقدمها أية حضارة أخرى من ممالك الشرق القديم، كما كشفت ترجمة بعض الرقم الفخارية عن تعدد اللغات التي كانت سائدة في المملكة آنذاك وعن العلاقات بين أصحاب المحفوظات الكتابية التي تم اكتشافها في بيوت الطبقة الحاكمة أو ما يطلق عليها اسم “الأثريون الحب الأرستقراطي” هذه الفئة حافظت على علاقات وثيقة مع السلطة الملكية، وقدمت كميات كبيرة من المعاجم والمفردات ثلاثية الأسطر أحياناً رباعية اللغات ” سورية – آكادية – حورية – أوغاريتية ” من هذه الوثائق عرفنا شخصيات رفيعة كالمفكر والعلامة رابعانو وراشبابو وأورتينو وكان المالكون وأصحاب المكتبات ومساكنهم مكاناً لنشر الثقافة والعلم.
على ضوء التنقيبات التي تمت خلال السنوات الماضية في هذه المدينة العظيمة والمواقع الأثرية القريبة منها أيضاً كموقع مينة البيضا في ثلاثينيات القرن الماضي إضافة لموقع رأس ابن هاني في منتصف السبعينيات بإدارة بعثة سورية فرنسية مشتركة كشفت تلك التنقيبات والدراسات عن تأسيس ملك أوغاريت ” عنشمروت الثاني” لتجمع عمراني عريق في منتصف القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، وعن ورش لصناعة الخرز والعقيق وقطع العاج وقوالب لسبك النحاس حيث قدمت تلك الاكتشافات والمكتشفات معلومات عن الحرف المرتبطة بسلطة القصر الملكي.
أمام هذا الازدهار الحضاري والصناعي والتجاري وهذه الحالة التي تعطينا صورة واضحة عن التنظيم التجاري والإداري الكبير الذي كان سائداً آنذاك في المملكة السورية العظيمة يضاف إليها اللغة والإنجازات التابعة لها والتي أصبحت من خلالها دراسة الأبجدية الأوغاريتية سهلة نسبياً مع وجود جدل وخلاف بين علماء اللغات عن جذورها ومصطلحاتها وفوائدها اللغوية …
إنها قصة عشق تبدأ ولا تنتهي …أوغاريت بوابة المحبة والسلام. ..
نعمى كلتوم