القارئ والمتلقي…وعلاقتهما بالنص الأدبي

الوحدة 25-1-2023

هناك علاقة قائمة على الإعجاب ناشئة بين المتلقي والنص الأدبي (مكانه – زمانه – أشخاصه – أحداثه – أفكاره)، ويحقق المتعة الذهنية والحياتية للقارئ ويمثل تشاركاً فريداً بين الكاتب والقارئ, بين غريبين ولكن في حميمية مطلقة, وهناك الكثير من النصوص التي تحمل طاقة زمنية مستمرة عابرة للأجيال والدهور بما تحمله من قدرة استثنائية على صياغة حياة الشعوب عبر دمج الهم الذاتي بالاجتماعي حيث بإمكان القارئ تقرّي أدق التفاصيل وقراءة ذلك الواقع وتلك الوقائع, حيث يلقي المبدع بنصه إلى القارئ، ولهذا القارئ مطلق الحرية بإضافة فهمه وتلقيه الخاص حسبما يبدع النص بإثارة كوامنه ويفعل فعله في زوايا الذات المتلقية… من يقرأ كتابات ونصوص ومقالات حنا مينه يكّون أفقاً واسعاً عن الفقر والبؤس والشقاء، يقول في روايته (الجسد) متحدثاً عن نفسه: (الفقر نوعان – أبيض الذي تعيشه اليوم, وأسود الذي عشته منذ وعيت الوجود , حيث كنت عرياناً إلا من خروق تستتر لحمك, وكنت حافياً جائعاً تبحث عن اللقمة وفي سبيلها عملت أجيراً عند مؤجر دراجات وأجيراً عند حلاق وحمّالاً وعتالاً في الميناء).
المبدع يفرد كامل أوراق نصه أمام المتلقي ويمنحه فرصة للعيش مع شخصيات وحيوات اخترعها على الورق للوصول إلى عالم الحقائق الأكثر قسوة وإيلاماً, ثم يأتي القارئ ليكسو النص من منهجه وتأويله الخاص معيداً إليه الحياة من جديد وتحميله ردة فعل إقبالاً أو إدباراً, حباً أو كرهاً , إعجاباً أم نفوراً… محمد الماغوط لا تسقط نصوصه من ذاكرة القارئ بتقادم الزمن, وهو من الأدباء الذين مزجوا في نصوصهم مفردات الحياة اليومية بمعجم مبتكر من الجماليات اللغوية ذات الحساسية العالية في التقاط المفارقة، والضجر السائد والظلم الاجتماعي عبر عويل عابق بالضجر والحزن والتمرد على كل القوالب الجاهزة, قال بعد نكسة حزيران 1967 القاصمة للظهر: ( أيها المارة: اخلوا الشوارع من العذارى… والنساء المحجبات… سأخرج من بيتي عارياً.. وأعود إلى غابتي).
النص الأدبيّ ينفث روحه داخل القارئ وفق جدلية الأخذ والعطاء, جسر وصلة وصل غير مباشرة وغير ملموسة بين القارئ والمبدع يحمل صياغة اللحظة الماضية، وتقديم قراءة طازجة للأحداث والأزمات تختبئ في ثناياه تلميحات وإيماءات توصف ما حدث, وبعض النصوص يكون بحدة الصدمة يدوي أثرها ووقعها بين القرّاء وقد تبنى الكثير منهم النصوص الغاضبة التي تعبر عن فيض التعبير عن الاشمئزاز والقرف والتعزز من أخلاقيات مجتمعية سائدة واستخدام أبطالها وعناوينها كشعارات اجتماعية وكفاحية… في أواسط الستينات من القرن الماضي رفع جيل الرفض والغضب في الولايات المتحدة الأمريكية شعار (كلنا هولدن كولفيكد) بطل رواية ( الحارس في حقل الشوفان)للكاتب الأمريكي جيرود ديفيد سالنجر, البطل الذي يسرد الأحداث في اعترافات نزقة عن زيف المجتمع الأمريكي تصل إلى حد السباب والشتائم.
القارئ لا يغفل حماس البطل الأدبي أو قرفه من مجتمعه الذي نشأ فيه ولفظه, ومن منظور التأثر والتأثير والاحتكاك التي يقيمها النص مع القارئ فإن البطل هو صاحب الموقف الفصل في التأثير بالمتلقي وإطالة عمر النص في ذهنه وجعل القراءة فعلاً أكثر متعة وتشويقاً، بطل يحمل منطقاً إنسانياً صائباً ووعياً ثقافياً ومعرفياً يحمل القارئ يأخذه بعيداً للإيغال في عوالم مجهولة نحو أبعاد مضيئة للحياة… عندما نشر ديفيد هنري سالنجر روايته(عشيق الليدي تشاترلي) أثيرت ضجة كبيرة ضدها واعتبرت منافية للأخلاق في المجتمع البريطاني أوصلت صاحبها إلى المحاكم, وحينها كتب جورج برنارد شو عنها: ( لو كان لدي ابنة أدركها سن الزواج فلن أدعها تتزوج – إذا كان بمقدوري – حتى تقرأ هذا الكتاب).
القارئ يقرأ ويتلقى ويتفاعل في أعماق ومرامي النص، وهناك نصوص تصور الزوايا المعتمة من حياة المجتمعات تقدم بشكل غير مباشر الوجه الآخر للصورة، وتترك له حرية اكتشاف الوجه الإيجابي من زاوية ووجهة نظره ما يجعله يرى عالماً جديداً، لم يره من قبل ويجد نفسه مجبراً على إعادة بناء الأحداث من جديد حيث يتموضع الجزء المخفي (المسكوت عنه) ضمن السياق السردي في عملية تطيل عمر النص في الأذهان … سليمان العيسى صاحب الكلمات المدوية والصوت الهامس الدافئ في القلوب والنصوص الخالدة في ذاكرة الأطفال الذين خصهم بنصيب كبير من إبداعه وعطائه, وقارئ كتابه( النعيرية قريتي) يواكب مسيرة الشاعر عبر النثر والشعر مذ كان طفلاً مروراً بمراحل حياته وعلاقته بأهله وتفاصيل القرية الريفية التي نشأ فيها ومدى تعلقه بها التي لا مثيل لها وكان يخشى عليها من الضياع والتي سلخت بتواطؤ استعماري ومؤامرة دولية كبرى في وضح النهار يقول: ( ينام ورد الشام في كفي… في جفني… في الضلوع… أعطيه ما يشاء من صوتي… ومن كل الذي يهجس في الضلوع).

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار