الوحدة 12-1-2023
إنها “بوينس آيرس”.. جهة الفجر بدأت تتكشف لنا الأشياء.. بعد اندحار الظلمة وطلوع القطار منها… قرى.. وبلدات.. حقول ذرة وعباد شمس على مدّ النظر.. مراع ورعاة.. ونهار أخضر.. “بوينس آيرس” غابات من ناطحات سحاب.. ولأول مرة نهر، ومقبرة سفن تجثو على صدره؟! إنه “ريودى لابلاتا” الأشبه ببحر.. هنا هبط “التركو”1 الهاربون من الظلم والجور والعسف والجوع.. وهنا ضاع عطر الراحلين.. أيام.. وأيام في “بوينس آيرس” وكل يوم تكتشف جديداً.. حدائق وشوارع و جسور، ومطاعم و “كرنفالات” وتسكعات جميلة.. هنا التقيت عبد اللطيف اليونس صاحب جريدة الوطن.. ورفقاء من الحزب الاجتماعي السوري القومي، أصدقاء من تركتهم في تشيلي.. والذين قدموا هذه البلاد ذات مطاردة في الخمسينيات من هذا القرن.. وهنا، قال لي الأديب الكبير عبد اللطيف اليونس: “بوينس آيرس” مرابع للسحر والحبّ.. والجمال.. هذه المدينة، عدوها الحميم، النوم.. بها خلقٌ من كل أرض.. عرب.. إسبان.. طليان.. أمريكيون.. صينيون.. يابانيون.. إنكليز.. و.. ما أكثر وأطيب.. غجر هذه الأرض.. لا شعب في هذا العالم إلا وله موضع قدم.. قدم عابرة أو مقيمة.. بقايا هنود نجوا من مذابح الغزاة.. رفاق “غيفارا” و”كاسترو”.. فنانون، وعازفون.. ومغنون، ولاعبو كرة قدم في الأرجنتين.. “مارادونا”، وجنرالات… وآخر عدوان إنكليزي يجري الآن على جزر “الفوكلاند”.. سجون.. وقبور.. وشهداء عابرون.. أدباء “خورخي بورغس” و “أرنستوساباتو”.. ضحكات عالية ولا نوم في “بوينس آيرس” كما قال لي الصديق الحميم جودت الأتاسي”. “بوينس آيرس” غزلٌ ونبيذ، وغزالات وجوهها أقمار بهية.. حشود تتقاطع.. صخب حوارات سياسية في الشوارع وأمام المقاهي.. شارات حمراء وخضراء.. باعة جرائد.. وضفة نهر تغصّ بالصيادين والعشاق.. وليل “بوينس آيرس” نهار يجري.. “بوينس آيرس” واسعة كسماء، مدهشة كقمر”. بوينس آيرس 25/1/1948
بديع صقور