” أثر الحرب على التراث الشعبي”.. محاضرة للباحث حيدر نعيسة

الوحدة 5-1-2023

وسط حضور محبّ للتراث الشعبي، ومفرداته الغنية وتفاصيله العريقة التي تعكس ألق الأجداد وقصصهم التي تتناولها الأجيال المتعاقبة، ألقى الباحث الأستاذ حيدر نعيسة محاضرة قيّمة تستحق كل الاهتمام، وذلك في دار الأسد للثقافة باللاذقية – قاعة النشاطات.. المحاضرة بعنوان: أثر الحرب على التراث الشعبي، وقد رصدنا هذه المحاضرة المتميزة ونستعرض فيما يلي أهم المحاور والنقاط الرئيسة التي جاءت فيها: تحدّث الأستاذ حيدر نعيسة بداية عن تأثر التراث الشعبي بالحرب قائلاً: تأثر التراث الشعبي بفرعيه المادي والشفوي بالحرب السورية التي بدأت عام 2011، واستمرت حتى حينه. لقد طالت أضرار الحرب الثقافة كما طالت الاقتصاد والخدمات، طالت البشر والشجر والحجر والأثر.. طالت الأرض وما عليها وكانت اللاذقية إحدى ميادينها الرئيسة بما فيها تراثها الشعبي الثرّي الغني الذي يعد جزءاً هاماً لا يتجزأ من التراث الشعبي السوري العظيم. كما أوضح المحاضر أن التراث الشعبي يُعرّف على أنه الصورة الأخرى للأم والتراث هو كل ما ورثناه، الجذر اللغوي له هو الموروث الذي تحدر إلينا من الماضي. ليس الأثر فقط هو الأثر المادي بل الكلمة أثر ثقافي – المثل – اللغز – الأسطورة – الحكاية – النظرة – الرأي.. كل ما وصل إلينا من الأجداد وهو تراث، ومن هنا تأتي أهميته الروحية وما يتضمنه من قدسية، ونحن الآن ندين لأولئك الكبار الذين ألّفوا الأقوال والأمثال ونظموا الآداب والعلوم والفنون ورثناه بدون أن نبذل أي جهد فيها، وتابع المحاضر حديثه قائلاً: لقد تعرض الريف الشمالي الشرقي من محافظة اللاذقية لاجتياح العصابات الإرهابية المسلحة التي أقدمت على ارتكاب مذبحة مروّعة في ليلة القدر يوم 4 /8 /2013 في سبع قرى، فاستشهد وخطف المئات خلال ساعات وهُجّر الألوف ودُمّرت البيوت والمنشآت وحُرقت المحاصيل ونفقت المواشي، كذلك أطلق الإرهابيون مئات الصواريخ على اللاذقية مدناً وأريافاً خلال سني الحرب، وما زالوا فاستشهد وجُرح الألوف زيادة على الشهداء والجرحى في ساحات المعارك على امتداد الجغرافية السورية من أبناء محافظة اللاذقية. وهكذا تغيّرت الحياة والحال وتغيرت خريطة المحافظة وملامحها وتغيرت الحدود والقيود المدنية، أبيدت أسر بكاملها، وغدت العديد من المزارع والقرى أطلالاً وذكريات وهكذا فقد التراث الشعبي أحد عناصره وهو الأرض والمكان، فلا تراث ولا هوية بلا عنوان ولا ممارسة ولا معايشة للتراث بلا مكان. وأضاف المحاضر: مع بداية الحرب في ربيع 2011 م، لم يستقبل أحد شهر نيسان كما جرت العادة ولم يحتفل أحد بالزهوريات تلك الكرنفالات الشعبية التي كانت تقام في قرى وبلدان عديدة من الساحل السوري. وتستمر الحرب ويستمر الضرر، ويعمّ وينتشر ليغطي سائر الميادين وشتى الآفاق من العلوم والآداب يوارى كل شيء جميل خلف قبح وجه الحرب.. لا زراعة ولا حصاد ولا أفراح نهايات المواسم، قلّت الأفراح وغابت الأهازيج تغيرت الألوان وطغى اللون الأسود كما تغيرت كلمات الرثاء وعبارات التعزية وانزوت دون أن تزول الاحتفالات الدورية الدينية الاجتماعية من عام إلى عام. وعن موضوع الزراعة قال الباحث نعيسة: تعطلت الزراعة في القرى التي دخلتها العصابات، وقلّت المنتجات والمداخيل، لم يجن أحد نبات الزعتر البري أو ورق الغار، لم يضع أحد قفة أو ملعقة خشب، أو طبق قش ولعل أبشع ما في هذه الحرب البشعة هو الدمار الذي ألحقته الحرب بالمزارات والمقامات والأماكن التاريخية الأثرية في القرى التي دخلها الإرهابيون، حيث عمدوا إلى تفجير تلك الأماكن المقدسة بالعبوات الناسفة بعد تدنيسها وسرقة محتوياتها وتصوير عمليات التفجير مع التكبير، وكذلك لم تسلم الأديرة والكنائس من السرقة والإتلاف، وقد أوضح الباحث أن منظومة المجتمع والعلاقات الاجتماعية، قد اهتزت وطرأ عليها التغيير الكبير فقد تشتّت الأسر، وهاجر الكثيرون ضمن البلاد وخارجها، وأقام آخرون في مراكز الإيواء أو في مخيمات اللجوء فحدثت خلخلة في البناء الاجتماعي، كما تغيرت صورة المجتمع المحلي، وحدثت هزة تراثية شديدة كبرى، مات الكثير من المعمّرين وهم حملة التراث الشفوي وخزائن معرفة ناطقة دون أن يسجل لهم أحد صوتاً أو يلتقط لهم صورة فطمرت الكثير من المرويات الشفوية معهم تحت التراب.. وختم الباحث نعيسة محاضرته قائلاً: ورغم الكمّ الهائل من الأضرار التي لحقت بالتراث الشعبي وغيره، فقد ظلّ التراث الشعبي في صميمه حيّاً يتحيّن الفرصة للانبعاث وظل وطنياً يجمع أبناء اللاذقية جميعاً مع أبناء سائر البيئات التراثية في سورية من الجزيرة إلى حوران ومن الشام وجبل العرب إلى جبال اللاذقية وحوض العاصي، ومثلما صمد الجيش العربي السوري في وجه صهاينة الإسلام كذلك صمد التراث الشعبي وغربل ونخل، وأفاد واستفاد وميز بين ما هو غث وما هو سمين، فاللاذقية سورية عربية، وتراثها جزء من تراث سوري عربي إنساني حضاري أصيل، كانت كذلك وستبقى. ومن المُلّح اليوم إحضار ما غاب، واستعادة ما توارى من التراث خلف غبار الحرب، ومسح وجهه المشرق سواء تعلق الأمر بمثل هذه الدراسات التي تعدها وحدة دعم وتطوير التراث الثقافي في وزارة الثقافة، أو ببعث الاحتفالات و المهرجانات الشعبية التي توقفت في ظل الحرب كيلا يكون توقفها دائماً أو تتخذ دليلاً على تحقيق الأعداء لأي هدف من أهدافهم… ولتكن المرحلة التالية مرحلة إعادة البناء هي مرحلة إعادة بناء ما تهدم من قلعة التراث الشعبي العربي السوري ورتق ما حدث من فتق في زيّه العظيم وإزالة الرقعة التي حاولت تشويهه كونها رقعة من غير لونه.. وطالما أن إنتاج الأمس هو تراث اليوم، وإن إنتاج اليوم هو تراث الغد، فلنسارع إذن في إنتاج التراث للتعويض عن عطالة طويلة امتدت لسنوات عدة ، وإنا لنستطيع.

ندى كمال سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار