إِقصاءُ نيسان ..

العدد: 9337

23-4-2019

انْزَوَتْ أُمُّ أَحمدَ في حُجرَتِها وقد تملَّكَها الحُزن، بعدما قضى ابنُها البكرُ أَحمدُ نَحْبَهُ في حادثِ سَيْرٍ أَلِيْم، لكنَّها مع ذلك الأسى كانت تقول: صحيحٌ أَنَّ القدرَ سَلَبَنِي ريعانةَ قلبي أَحْمَدَ، لكنَّهُ سَقاني سَلْوَةً بِأَخِيْهِ نيسان.. نيسانُ الذي كان حديثَ التَّخَرُّجِ مِنْ كُلِّيَّتِه.
لَمْ يمتلكْ نيسانُ خبرةً كأخِيْهِ في إِدارةِ مَحَلِّ وَالِدِه، مِمَّا أَدَّى إِلَى تَرَاجُعِ إِنتاجِه، وتكَبَّدَتْ أُسْرَتُهُ خسائَر لا بأسَ بها.
أَبْدَتْ الأُمُّ استياءَها مِنْ تِلكَ الخسائر، وبدأَ اليأْسُ يتسلَّلُ تِباعاً إِلى قلبِ نيسان..
وذاتَ صباحٍ قَرَأَ نيسانُ إعلاناً لِوِزَارَةِ التربيةِ عَنْ إِجرائها مسابقةً لِتَعْيينِ عَدَدٍ مِن المُدرِّسِيْن، فَحَدَّثَ أُمَّهُ قائلاً: شخصٍ مثلي لمْ يستطِعْ إِدارةَ مَحلِّ وَالِدِهِ والتعاملَ بحذق مَعَ الآخرين، كيف لَهُ أنْ يدرسَ أَو أَنْ ينجحَ في إِدارةِ صَفِّهْ.
أَرْدَفَتْ الأُمُّ قائلة: لا أَحدَ يعلمُ أَينَ يَكمُنُ نجاحُهُ يا بُنَيّ؟
ومِنْ ثَمَّ حاولَتْ جاهدةً إقناعَهُ للتَّقديمِ حتى اقتنع، وبعد مرورِ شَهْرٍ تَمَّ الإعلانُ عَنْ أسماءِ الناجحين، وكانَ مِنْ بينِهم نيسان.
وقُبَيْلَ ذهابِهِ إلى مدرستِه، قالت له أُمُّهُ: أَيْ بُنَيّ عليكَ بِكَسْبِ القلوبِ فإِنَّها مفتاحُ الدُّرُوب.
ولأوَّلِ مَرَّة، دخلَ صَفَّهُ فَرِحَاً، وعَرَّفَ بِنَفْسِهِ، وقال: أَنَا نيسانُ، انفجَر الطُّلَّابُ بالضَّحِك، قالَ أَحَدُهُمْ: لَعَلَّكَ مُخْطِئ، نَحْنُ لَمْ نَزَلْ في شُباطَ، تابَعَ الآخَرُ: ماذا أَحْضَرْتَ مَعَكَ يا نيسانُ؟
ولَمَّا عَلِمَ أَنَّ الأَمْرَ قَد خَرَجَ مِنْ يَدِه، فَرَّتْ دَمْعَةٌ عَلَى خَدِّه، حَاوَلَ إِخفاءَها، لكنَّهُ لَمْ يستطعْ.
وَتَوَالَتْ الأَيَّامُ، ووَصَلَ أَمْرُهُ إِلَى أَسْمَاعِ مُديرِ المدرسةِ فاستَدْعَاهُ قائلاً: أَعْلَمُ أَنَّكَ حَدِيثُ العَهْدِ بالتَّدْرِيْسِ، لِذَلِكَ لَمْ أُكَلِّمُكَ في البِدَايَة، وسَأُعْطِيْكَ فُرْصَةً أُخْرَى، وَأَعْطَاهُ بعضَ النَّصَائح.
وَبَعْدَ أُسْبُوعٍ زَارَ المَدْرَسَةَ مُشْرِف تربوي مِنْ مُدِيْرِيَّة التَّرْبِيَة، فَسَارَعَ المُديرُ لإِخبارِ نيسانَ، لَكِنَّ المُشْرِفَ كان أَسْرَعُ مِنْهُ، وَفَوْرَ وُصُولِهِ أَبْدى المشرف انْزِعَاجِهِ لِحَالَةِ الصَّفِّ والطُّلَّابِ والمُدَرِّس، فكانَتْ النتيجةُ إِقْصَاءَ نيسانَ إِلَى مَدْرَسَةٍ أُخْرَى فِي أطراف المدينة.
تَلَقَّى نِيْسانُ هذا الخَبَرَ بِبَالِغِ الحُزْنِ وَكَتَمَهُ عَنْ وَالِدَتِه، انتظر نيسانُ يَوْمَيْنِ قبلَ التِحَاقِه، وَبَدَأَتْ تَلُوْحُ فِي أُفُقِهِ كلماتُ وَالِدَتَه فَتَذَكَّرَهَا، وقال: نَعَمْ صَحِيْحُ كَسْبُ القُلُوْب.
في الْيَوْمِ التَّالِي انتفضَ فَرَحَاً، وَأَسْرَعَ إِلَى مَدْرَسَتِه، وَبَعْدَ دُخُوْلِهِ إِلَى غُرْفَةِ المُدِيْر، رَأَى طَالِبَيْنِ مَعَاقبين لِتَأَخُّرِهِمَا، فَتَوَسَّطَ لَهُمَا عِنْدَ المُديرِ عَلَى أَلَّا يَتَكَرَّرَ ذَلِك، سُرَّ الطَّالِبَانِ وَشَكَرَا المُدَرِّسَ، وَبَعْدَ تَسْلِيمِهِ بَرْنَامِجِه، وفِي البَاحَةِ شَاهَدَ مُشاجرةً بين مجموعةٍ مِنَ الطُّلابِ فحاولَ جاهِداً فَضَّ النِّزَاعَ وَبَدَأَ الحديثَ مَعَ الطَّلَبِةِ لِمَعْرِفَةِ السَّبَب، لِلإِصْلاحِ بينهم، سُرَّ المديرُ مِنْ نيسان، وعندَ دُخُولِهِ إِلَى صَفِّهِ لَاحَظَ غِيَابَ أَحَدِ الطُّلابِ فَسَأَلَ عَنْهُ، فقال الطَّلَبَة: لَيْلَةَ البارحةِ تَعَرَّضَ لِحَادِثٍ وَهُوَ الآنَ فِيْ الْمَشْفَى، تَابَعَ نيسانُ قائلاً: مَنْ يُرَافِقُنِي لِزِيَارَةِ زَمِيْلِكُمْ بَعْدَ إخْبَارِ ذَوِيْكُمْ ؟
صَفَّقَ الطَّلَبَةُ لِنِيْسَانَ، فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الفَرَحْ، واستمَرَّ نيسانُ عَلَى هذا المِنْوَال، واستطاعَ استقطابَ طُلَّابِهِ إِلَيْه، وكانَتْ حِصَّتُهُ مِنَ الحِصَصِ المُمَيَّزَةِ فِي الشَّرْحِ وَالانْضِبَاط.
وَفِي يَوْمٍ قَدِمَ إِلَيْهِ مُديرُ المدرسةِ، وقال لَه: أَنْتَ فَعَلْتَ مَا لَمْ أَسْتَطِعْ أَنَا فِعْلَهُ طِيْلَةَ السَّنَوَاتِ المَاضِيَة، مَاذا فَعَلْتَ حَتى حَصَدْتَ كُلَّ هذا الحُبّ؟!
قال نِيْسَانُ: جُلُّ مَا فَعَلْتُهُ أَنَّنِي فَتَحْتُ القُلُوْبَ بِمِفْتَاحِهَا.

ندى نجّار 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار