الوحدة: 29- 11- 2022
البوح والاعتراف واستحضار الأحداث والعلاقات الهاربة من الذكرى، لون مفقود في أدبنا العربي يصور دقائق حياة الناس وما يدور في رؤوسهم وما ينام تحت جلودهم، ويظهر العلاقات الإنسانية بين الأدباء ويكشف صفحات من حياتهم الخاصة، يفتحون صناديق، ويفرجون عما هو مسكون عنه لمن اصطفوهم بودهم وائتمنوهم على أسرارهم بأقصى حالات الجرأة والمكاشفة العلنية والمشي حفاة فوق الألغام الاجتماعية.. يبوحون بأشياء ووقائع وكأنهم أحرار طليقون من أية قيود أدبية أو اجتماعية قد لا يبوحون بها إذا علموا أنها ستذاع وتنشر وتعلن، أما في الشرق المتكتم على عيوبه وعلله وعاهاته وآهاته، فإن هذا النوع من الأدب يحتاج التشجيع والدعم..
الشاعر والدراماتورجي البريطاني توماس سترينز إيليوت كان يغار على خصوصياته ووضع شرطاً لمنفذي وصيته الأدبية يتلخص في الامتناع عن نشر سيرته ورسائله الموجهة إلى زوجته في الصحف والمجلات فقامت أرملته فاليري بنشرها في مجلدات خاصة.
هناك مسافة بين الشفافية والسرية في الحياة الشخصية للكاتب، الشفافية تخرج الكنوز التي تبقى حبيسة العقول والأدراج من الظلام إلى النور والعلن، تضعنا في أجواء وطبائع أناس لعبوا دورهم في الحياة ثم غابوا في طوايا الزمن، فالكاتب يملك سيرته وأحداثها لكنه لا يملك نشر أو فضح ما تشارك به من قصص ووقائع وأمور وأوقات وأحداث مع الآخرين لأسباب اجتماعية وإنسانية بحتة، وقد يكون نشرها يسبب الألم والحزن والإرباك لأشخاص تشابكت حياتهم مع حياته وربما لا يفضلون كشفها أو لا يملكون الشجاعة الكافية لطرحها للعموم…
أدونيس أجاب عند سؤاله: (هل هناك حدود تقف عندها ولا تجرؤ على الكتابة عنها) قال: (نعم.. ليس لأني لا أملك الجرأة ولكن ثمة ما يؤثر على حياة الآخرين).
الكاتب من لحم ودم ويمارس جميع مناحي الحياة بشكل طبيعي ومنها الحب، والأنثى أكثر قدرة على التفاعل الإنساني والتعبير عن الأحاسيس والمشاعر وإفشاء الأسرار التي تعتمل داخلها ومعاناتها واحتقانها وكل مفردات العذاب الأنثوي البعيدة عن متناول العلن.
كان الفيلسوفان الفرنسيان الوجوديات جان بول سارتر وزوجته سيمون دي بوفوار مهووسان بوهم السيرة الذاتية وتملكتهما نزعة صنع الأسطورة الشخصية فكتبا وعاشا وفق مقتضياتها وأرادا أن يعرف الناس كامل الحقيقة عن حياتهما الشخصية والمشتركة وقد كتب سارتر (لم يحدث مطلقاً أن تخلصت من الرسائل و الوثائق التي تتعلق بحياتي الخاصة، أعتقد أنه ينبغي أن تكون الشفافية بديلاً عن السرية، لكن زوجته بوفوار اعترفت أنها أغفلت أشياء من حياتها في مذكراتها وكانت تتمنى أن تكتبها لأن هذا لن يؤثر عليها فقط بل على أناس معنيين قريبين جداً منها.
مي زيادة ملأت سيرتها تاريخ الأدب العربي في مطلع القرن العشرين وحتى الثلث الأول منه وشغلت الأوساط الاجتماعية بصالونها الأدبي وصارت محط أنظار الأقرباء قبل غيرهم وكانوا لها بالمرصاد، لا ليقدروا إبداعها بل للإساءة إليها وانتهت حياتها نهاية مؤسفة حزينة بإدخالها مشفى الأمراض العقلية وقد ترك الحب آثاراً واضحة على مسار حياتها وطبع بصماته على نتاجها ونتاج المفكرين حولها وقد عرفت الحب: (هيكل تخشع فيه النفوس فتجثو للعبادة والصلاة والاتحاد الروحي).
غادة السمان مشت حافية فوق حقول الألغام وأنتجت أدباً مختلفاً وتميزاً خرجت به من الإطار الضيق لمشاكل المرأة والحركات النسوية إلى آفاق نفسية واجتماعية وإنسانية وأحدثت ضجة في الأوساط الإعلامية والأدبية والسياسية وأرست منهجاً تحررياً طليعياً في الكتابة وفتحت صندوق الأسرار لتفرج وتطلق سراح ما هو مسكوت عنه بأقصى حالات الجرأة والمكاشفة والعلنية ونشرت رسائلها المتبادلة مع المناضل الفلسطيني الأديب غسان كنفاني الذي جمعتها معه علاقة عاطفية لم تكن سراً في بيروت.
تقول غادة: كل أنثى تزهو ولو سراً بعاطفة تدغدغ كبرياءها وأنا بالتأكيد لا أستطيع تبرئة نفسي من ذلك أي هرب ما دامت الأشياء تسكننا وما دمنا حين ندخل هرباً منها نجد أنفسنا وحيدين معها وجهاً لوجه.
غسان كنفاني الذي أهدى روحه لوطنه فلسطين بادر بنشر رسائله إلى غادة في جريدة المحرر اللبنانية تحت عنوان (أوراق خاصة) وما كان يعلنه لأصدقائه وزملائه حتى غدا الوسط الثقافي والأدبي والإعلامي يعرف بها قبل أن تنشرها غادة السمان بعد استشهاده بربع قرن…
يقول كنفاني: (إن غادة السمان كانت درعه في وجه ضعفه وفي وجه الناس وأنه يدرك منذ البداية أنه لن يستطيع الاحتفاظ بها إلى الأبد وهذا ما يعذبه.
نعمان إبراهيم حميشة