18 نيســــان .. والـــــتراث في يومـــــه العالمـــــي

العـــــدد 9335

الثلاثـــــاء 16 نيســـــان 2019

 

للبشرية في تنوعها قدرة خارجية وذاتية ممنهجة وعفوية، وفي مضمار التنوع يكمن سرّ الحياة وقيمتها، ولتكون القيمة الحصيلة الإنسانية هي ما سميّ بالتراث، فحينما ولد الفكر كان لا بدّ أن يعبّر عنه ملموساً ومكتوباً ليكوّن خطوطاً وزخرفات تعمل عما يريده العقل إلى أن نشأت الكتابة، كل ذلك أرّخ لتراث الإنسان منذ البداية والتكوين، فالتراث بما يشمل من تراث معنوي أو مادي وخلاصة العقل البشري وما أنجزه ليكوّن ثقافة تتميز وتتمايز وليظل التراث مجموعة خبرات الإنسان مع البيئة المحيطة وهو حجر الأساس الذي تقوم عليه الأمم في تاريخها وحاضرها وهو ما يربط العلم والفن والأخلاق والعادات والمهن، فلا يمكن دراسة عقل أمةٍ دراسة متعمقة ودقيقة دون الرجوع ومعرفة تراث وتاريخ هذه الأمة عبر عصور وجودها، فلا يمكن فهم العلوم الإنسانية إلا بأخذ الاعتبار لما في العلوم الإنسانية من دور في بناء العقل الإنساني العلمي بما تتضمنه العلوم جميعها، فالتراث على اختلاف أنواعه وأشكاله مبعث فخر الأمم واعتزازها وهو خير تعبير عن الهوية الوطنية، وصلة وثيقة لا تنفصم بين الماضي والحاضر.

– من هذا المنطلق بأهمية التراث ودوره فقد تعالت الأصوات المطالبة بالحفاظ على التراث، ونشأت منظمات ومؤسسات دولية حكومية وغير حكومية وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى وحجم الدمار الذي خلّفته، الأمر الذي حَثّ العقل العالمي لضرورة المحافظة على التراث للمحافظة على الإرث الإنساني الذي هو هوية الأمم وهيئتها، لذلك كان لا بدّ من حماية التراث ضمن عدد من الحمايات هي:
1- الحماية القانونية على ثلاثة مستويات دولي وإقليمي ومحلي. 2- الحماية الإدارية 3- الحماية التقنية التي سخّرت بنوك المواقع الالكترونية في حفظ التراث وحمايته وتسجيله 4- الحماية الأمنية أيضاً على ثلاث مستويات دولية وإقليمية ومحلية، والمنظمات الدولية التي اهتمت بحماية التراث هي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) أنشئت عام 1945م، مقرها باريس والمجلس الدولي للمتاحف (إيكوم) وهو منظمة غير حكومية أسستها اليونيسكو عام 1946م وهي تعمل على تنظيم موضوع امتلاك القطع الأثرية التراثية عن طريق التبادل المتخفي وحفظ القطع وكيفية صيانتها والمجلس الدولي لدراسة وترميم الممتلكات الثقافية وصونها (الإيكروم) انبعثت عن اليونيسكو ومقرها إيطاليا أيضاً المجلس الدولي للنصب التذكارية والمواقع الأثرية (الإيكوموس) وهي منظمة غير حكومية أسستها اليونيسكو عام 1956م والصندوق العالمي للآثار تأسس عام 1965م ومقره نيويورك وله مركز ثان في باريس، كذلك صندوق التراث العالمي أنشأها عام 1972م ولجنة التراث العالمي وقد انبثقت عن اليونيسكو عام 1972م أيضاً اللجنة الدولية لإدارة التراث الأثري (إيكام) وهي لجنة استشارية عالمية متخصصة في مجال التراث وهي تابعة (للإيكوموس) تأسست عام 1990م، تعمل على تبادل المعلومات والبحوث بين علماء الآثار والمهتمين والباحثين بمجال التراث الثقافي والتراث ثقافة بلا حدود تأسست عام 1995م وهي منظمة إغاثة دولية للحفاظ على التراث المهدّد بالخطر وهناك قائمة التراث العالمي المعرض للخطر وهو برنامج تابع (للإيكوموس) تأسس في المكسيك والبنك العالمي للتراث الثقافي.
– أما بالنسبة للوطن العربي فقد نشأت وتأسست فيها عدد من المنظمات مع نشأة الجامعة العربية حيث تأسست المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليسكو) عام1945ومقرها تونس لتنسيق الجهود العربية بهدف الحفاظ على التراث العربي وحمايته ونشره.
ومنظمة المدن العربية وهي منظمة غير حكومية تأسست عام 1962م مقرها الكويت وكذلك مؤسسة الآغا خان وهي الوكالة الثقافية لشبكة الآغا خان للتنمية أنشأت رسمياً في عام 1988في جنيف كمؤسسة خيرية تسعى إلى تحسين الحياة الثقافية في المجتمعات الإسلامية، ومركز الأبحاث للتاريخ والفنون الإسلامية (إرسيكا) وهي منظمة انبثقت عن المؤتمر الإسلامي عام 1976م، أيضاً منظمة العواصم والمدن الإسلامية وهي منظمة غير حكومية أنشئت عام 1980، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) تأسست عام 1982م ومقرها الرباط في المغرب ومؤسسة التراث وقد أطلقت اليونيسكو حملة (متحدّون مع التراث) لأول مرة عالمياً في العراق في 28 آذار عام 2015 بعد تعرض الآثار العراقية للتدمير والنهب، وتم إطلاق حملة ( متحدون مع التراث) في مصر في 13 أيار عام 2015م.
– كل هذه المنظمات والمؤسسات إنما كانت بهدف حماية الإرث الإنساني من الدمار والحفاظ عليه وقد كان أول ميثاق يختص بالتراث ويحثّ العالم للمحافظة عليه عام 1921م كما تلته اتفاقية لاهاي عام 1954م وميثاق البندقية عام 1964م واتفاقية حماية التراث العالمي الطبيعي بباريس عام 1972م وأصدرت مجموعة من التوصيات والقرارات والمواثيق الدولية والوجوب الأخذ والعمل بها للمحافظة على التراث ومع كل هذه المنظمات والمؤسسات والمؤتمرات تعبي التراث بقي للتدمير والنهب وذلك بتأثير عدة عوامل منها السيطرة الخفية التي تمارسها بعض الحكومات على المنظمات الدولية وازدواجية المعايير وتطبيق القوانين إضافة إلى عدم انضمام بعض البلدان إلى الاتفاقيات المعنية بحماية التراث مع غياب التنسيق الفعّال بين هذه المنظمات ودور المزادات الدولية والتي يطلق عليها (السوق الدولية للفنون) للمسروقات من الآثار نتيجة الاعتداءات المتكررة على مواقع التراث بما تحتويه من آثار وعدم الاهتمام بالقرارات الدولية والعامل المهم أيضاً في هذا قلة الموارد المالية لتغطية نفقات العمل بالحفاظ على التراث.
– وفي ظل ما تتعرض له منطقتنا العربية ولا سيما في هذه السنوات التي حملت معها حرباً شرسة كانت الحرب الثقافية الأهم فيها والتي حاولت هدم وتغييب الإرث الإنساني العربي في أوطاننا.
هذه الحرب التي صبغت الصراع بين قديم وحديث وظهور انقسام حاد بين مفهومي الأصالة والمعاصرة وما حملت معه من معارك فكرية وعقلية وخاصة في زمن ثورة المعلومات والاتصال التي فتحت الفضاء على مصراعيه أمام هول من المعلومات تشكل تهديداً عظيماً للتراث العربي، ففي عصر العولمة هذا بات من الضروري التمسك بتراثنا الثقافي وحمايته من الهجمات الممنهجة التي يتعرض لها تراثنا وتاريخنا، حتى بدت كأنها عملية تطهير ثقافي وغزو هائج يمحو معه كل الملامح والهيئات وعندما نقول بالعودة إلى تراثنا العربي وضرورة المحافظة عليه لا نقصد به هنا التقليد ولا العودة إلى جموده وتحجّره واستقراء شواهده، إنما العودة إلى القيم الثابتة التي تحمل في طياتها خصائص وعوامل الحيوية والتطور وخلق دروب للوصول إلى الآخر والحوار معه، ونغني بالتراث أي الانتماء الواعي إلى رموز تراثنا التي تصقل الفكر وتهذب الوجدان ليحلّق إلى سماء الإبداع.
فما يتعرض له تراثنا من تخريب وسرقة وضياع ونهب وتدمير إنما يدعونا وبشكل حثيث لليقظة والعمل للحفاظ على تراثنا، لأن عدم معرفتنا بتراثنا بكل جوانبه وقيمته إنما يعني تغييب العقل وإلغاء الولاء والانتماء للوطن الأم، والأمم التي لا تحمي تراثها لا صفة لها ولا تستحق هذا التراث بكل أنواعه وأصنافه المادية وغير المادية، لأن التراث هو الحامي للأمة الواعية بمقدراتها التاريخية والحضارية وهو المقياس الذي تُبنى عليه كل الحضارات القادمة وإن تغير شكل الاتصال فيها.
لهذا يجب علينا الحفاظ على تراثنا وتوظيفه فكرياً وتنموياً وتربوياً وتفعيل دور المنظمات والمجموعات العاملة في المجتمع المدني في هذا المجال وكذلك الاهتمام الجاد بدور الأسرة والمدرسة والإعلام لنشر الوعي والثقافة والعلم لنبقى نحن بهويتنا التي تحمل تاريخنا وهويتنا، ولنحمي تراثنا لأمن أوطاننا، فهويتنا هي تراثنا كقيمة إنسانية وعلمية إيجابية في مواجهة التطرف وبناء مجتمعاتنا بما يليق بإنسانيتنا التي نستحق، فالتراث رئة الأمة من أجل مستقبل أفضل دائماً، وكما يقال: (من لا ماضٍ له، لن يكون له حاضر ولا مستقبل).

سلمى حلوم

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار