الوحدة: 8- 11- 2022
الرواية أقدر الفنون الأدبية بالتعبيرعن جميع ما يخطر على البال، ويجري في النفس ويشهده البصر وتسمو إليه البصيرة، وهي حفرٌ عميق بما كان وفيما سيكون وتنقيب في البنى الاجتماعية وتتباين الروايتان في أنها تمثل هواجس كتابها، وطرائقهم في تناول موضوعاتهم وبناء شخصياتهم وإقامة توليفة من الأحداث المتشابكة التي تتضافر في نسيج الرواية وتحمل الجملة اللغوية جميع الطاقات الدلالية الممكنة، وبث الرؤى والأفكار والمعاني المجردة المجسدة التي تحفل بها رواياتهم، تقول أحلام مستغانمي ( لا يمكن لروائي يفشل في اختراع كذبة تنطلي على أقرب الناس إليه أن ينجح بعد ذلك في تسويق أكاذيبه في كتاب).
عبد الرحمن فينيق روائي صاحب خيال ثرٍ محلق قادر على الاكتشاف وطرح الأسئلة التي يصعب الإجابة عنها، مؤلف سلسلة روايات ( مدن الملح) التي تتكون من خمسة أجزاء منفصلة عن بعضها البعض، وتعد أيقونة الرواية العربية، تتحدث فيها بالتخييل والترميز عن اكتشاف النفط في منطقة الخليج العربي، وما طرأ على الحياة فيها منذ بداية القرن العشرين.
الامتاع والجذب شرطان رئيسيان لنجاح أي عمل روائي، والروائي في حالة تنصت وترقب دائمة وتموجات شطط خيال لا يستقر على حال وكوابيس سوداء يعيشها في رؤيته ورؤياه واللقاء مع الأشياء، وليس الأشخاص واقتناص الأفكار لإغنائها أو تعجيزها لتخرج من مكامنها و أوكارها، مهمته تعرية الواقع وكشف خباياه وإبراز المستور من تشوهاته وأسبابها ومن يقف خلفها وانعكاساتها، يلملم أحداث روايته ناسجاً منها لوحة متناغمة من الأحداث والوصف التخييلي والمفاجآت والصدف المستحيلة والأحلام والأقوال المأثورة، ويبث في ثناياها آمالاً محبطة من جهة وآمالاً مفرحة من جهة أخرى… صموئيل بيكيت صاحب المزاج الحاد والخيال السوداوي في التفكير الذي تحدث عن عواء الأزهار قال: ( أنا الذي يبحث طويلاً عن زهرة في فم الغراب)…….
والفنان اليوناني الكبير ميكيس تيودوركيس: ( وجه دعوة إلى المطر والبرق وإلى قوس قزح، وإلى الأزمنة كي تتوقف كلها دقيقة عن العمل حداداً على الحرية الإنسانية المغدورة).
الروائي صاحب خيال يعرف كيف يولد المعاني، وكيف يستخرج دقائقها ودفائنها وغيرها من الأصداء المرافقة للصورة، والخيال قوة تأملية في العقل ونشاط ذهني فريد وتغيير في نظام الأشياء وزوايا النظر إليها، وهو المكان الوحيد الذي يستطيع فيه الروائي الحياة بحرية كاملة والتماهي حتى ذوبان الحدود بين الواقع والمتخيل، يفتح سديماً في مخيلته على فضاء من الإيماءات، والإيماءات والصور يبنيها على ترف المخيلة في رنينها الخاطف والغامض والصاعق بذائقة مرنة على الفك والتركيب والتقويل والتأويل تحدوه رغبة عارمة في الانفلات من إطار العقل وتوازنه الصارم، يمد سهولاً وودياناً من المعلومات المشوقة الحميمية ويفتح أنفاقاً سرية يغوينا باتباعها … في كتابه (موسيقى الحوت الأزرق) يقول أدونيس:( للحوت الأزرق حس إيقاعي والموسيقى بالنسبة إليه عنصر حيوي، فهذا الحوت يطلق ترنيمة موسيقية غنائية متتالية، وهذا النشيد المائي يتيح لهذه الحيتان أن تتعرف على مواضعها في المحيطات وأن تعرف ما يحيط بها على مساحة قطرها عشرة كيلو مترات، … من أنغام موسيقى الحوت الأزرق حري بها أن تحدد رؤانا ومواقعنا وإلى أين نمضي … بثقافتنا العربية).
نعمان إبراهيم حميشة