الوحدة : 28-9-2022
صارت الثورة الرقمية واقعاً فرض نفسه وسطوته على الثقافة والوعي الفردي والمجتمعي وصار من المسلم به، ومنذ مطلع القرن الواحد والعشرين تغلغلت التكنولوجيا في حياة البشر اليومية وأصبحت معظم الأعمال التي يقومون بها تحتاج إلى أجهزة الكترونية، وحتى المطالعة والقراءة شملتها التكنولوجيا حيث اكتسحت الثقافة المصنعة أمداء الرؤية لديهم وأحدثت فجوة كبيرة بينهم وبين الكتاب المطبوع وأفقدتهم الحس بقيمة الكتاب ونكهة ملامسة الورق ورائحته. الإبداع ثروة وطنية ومعيار لتقدم الأمم ينصب على خدمة الإنسان وليس أذيته، وهو رسالة إنسانية لتغيير الواقع بموضوعية وكشف خباياه وتعرية المستور من تشوهاته وتقرحاته وكشف أسبابها ومن يقف خلفها، يعكس ذاتية الأديب وروحه ويختزل هواجسه ومخزون مشاغله ومؤرقاته وما يجول بخاطره من أفكار ودلالات ورؤيته لرسم مستقبل واعد بالخير والمحبة والسلام. والمبدعون هم منبع الفكر وواجهة المجتمعات يلتقطون جزئيات الحياة ويحولون زوايا النظرة الحادة للأشياء إلى دائرة تدور في كل الاتجاهات يجمعهم مع القارىء تواصل وهموم وانكسارات ورغبات مشتركة وأحلام وصبوات وأمنيات وعليهم تعقد الآمال لتغيير الواقع. الكتاب من مستلزمات الثقافة وثوابتها وهو وعاء المعرفة والعلم ويمثل مظهراً ثقافياً مهماً خالداً لا يزول ويدل على الهوية والانتماء لهذه الحضارة والأرض , وهو قنديل الدجى ومنارة الدرب والتي نتلمسها في العتمة،تسعى به حقول العقل فتزهر وتثمر تقدماً وحضارة, والقراءة وسيلة من وسائل التواصل البشري بين الشعوب ولعبة ذهنية ذات أثر إيجابي تفتح الباب واسعاً لتنشيط الخيال ، لكنه في هذا الزمن تغير الإنسان وأفكاره وأحلامه وغاياته، وأساليبه في العيش والحب وفي متطلبات الحياة واختلفت طريقة قراءته وكتابته وسادت ظاهرة التصفح والقراءة السريعة التي لا تصل بصاحبها إلى عمق الأشياء والجوهر والاكتفاء بالمراوحة على السطح دون تحصيل أي معرفة تذكر. لا أحد ينكر دور القراءة الإلكترونية التي أسقطت الجغرافيا واختصرت المسافات وقربت الحضارات وصارت منبراً هاماً لتعميم الفكر والأدب وتبادل الأفكار والثقافات بين الشعوب وغدت منصة ثقافية لنشر الثقافة والمعارف ووصول الكتاب الإلكتروني إلى أكبر عدد من القراء وتسليط الضوء على الكثير من الأدباء والمفكرين، والمبدعين في شتى أنحاء العالم ومكنت القارىء من حمل مئات الكتب ودون عناء واختصار الوقت واقتصاد الجهد والمال. المد الفضائي الرقمي يزيد من تردي الفضاء الأدبي المتسارع في أعماله وإصداراته الكثيرة البعيدة عما يلامس حياة الناس والقريبة جداً من ذات الذي لا يجيد إلا التحليق في فراغ تهويماتها ,والقراءة الإلكترونية محوطة بالضباب الكثيف الذي لا يعمل العقل ولا يقدم أجوبة مقنعة، نصوص مرصوصة الكلمات حاوية المعنى والمضمون مترعة بالخواء وتثبيتها وأدخلت القراء في حلقة مفرغة لا سبيل إلى الخروج منها بفعل غياب المرجع واستحالة استحضار المعلومة الموثقة حين الحاجة , والقراءة السريعة شوهت الإبداع وأنتجت فكراً ضحلاً هزيلاً وساهمت في تصويب ونفخ بعض الأسماء كما تنفخ البالونات، والتواصل الأدبي بين القارات حول الإنسان إلى كائن بلا هوية ولا انتماء يعاني الخلل النفسي والانفصام الفكري وتؤثر بشكل سلبي على المخ والأعصاب، وتشتيت التركيزوتسبب قلقاً واضطراباً في النوم، ناهيك عن انعكاسها بشكل سلبي على العوائد الاقتصادية للمكتبات ودور النشر الورقية . الموهبة هي السحر الكامن في الكتاب ورداءة العمل الأدبي تأتي من ضعف الخيال ومحدودية أجنحته على السمو والتحليق وعند عدم الإلمام باللغة وقواعدها تتشوه النصوص والمعاني وتفقد الجاذبية بالقراءة والمطالعة.. علينا توظيف التقنية بكل وسائلها لخدمة وتطوير المنتج الثقافي وتنميته للارتقاء بالإنسان وفكره وحياته ورد الاعتبار للمنتج الثقافي الورقي ( كتب – مجلات –جرائد ) لتظل شعلة متقدة تنير الطريق إلى المستقبل المنشود.
نعمان حميشة