الوحدة : 28-9-2022
ومِن حاضرٍ ما زالَ يستلبُ جُلَّ تفكيرِنا واهتمامِنا، ويأسرُنا بتفاصيلَ يوميّةٍ قسريّةٍ، حاضرٌ: الحضارةُ فيه في احتضار، والخواطرُ فيه في انكسار، أعودُ لأرجِعَ بذاكرتي إلى ماضٍ يُحاكيه صعوبةً وقسوةً، بل وأكثر! ولكنّه ومع ذلك هو ماضٍ يُعبّر عن الزمن الأصيل، فذلك الماضي وعلى الرَّغمِ مِن قسوةِ العيشِ فيه، ومِن خلوّهِ مِن أيّةِ تقانةٍ مِن تِقْنِيّاتِ العصر، إلاّ أنّ آباءنا وأجدادنا كانوا وبالفِطرة السّمحاء والأصالة والإباء، قد ارتقوا وسموا في الإنسانيّة، بعفويّةٍ عريقة وببساطةٍ عميقة، فوجدوا أنّ أسمى ما في الوجود هو جبرُ الخواطر وإكرامُ الزائر، وأستحضرُ هنا – مِنَ الماضي الجميل- بيتَ العائلة الكبير بزوّاره، المُتواضع بأسراره، فقد كان يقصده كثيرونَ مِنَ الأفاضل شباباً وشيباً، قاصدينَ: [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]، سواءٌ بالكلام أم الطّعام، في أجواء ملأى بالمحبّة والطّيبة. في أحد الأيام وبعد تقديم مائدةٍ كبيرةٍ من الطّعام للزائرين، رأيتُ والدتي (أم نزار – هند) وبنخوتِها المُعتادة وفي غرفة جانبية، تسكبُ عبوة واسعة لأحد المُحتاجين، فأسمعه يقول لها: “الله يعوضكم من نعمه”، فترد عليه والدتي: “هذا من باب الله.. ومحبّة بالله”، هذه التّلقائية العِرفانية تذكّرني بقول الكتاب المقدس: “وكل ما تعملونه، فاعملوه في المحبة”، وقول السيد المسيح: “لو قدّمتُ أموالي كلها للإطعام وسلّمتُ جسدي لأُحرَق وليس عندي محبّة لما كنتُ أنتفع شيئاً”، فليس يصل إلى القلب إلاّ ما كان من القلب”. وكانت والدتي قد حدّثتني عن أجدادها في الجبل عموماً، وعن جدّتها (زهرة الجبل الصّالح) خصوصاً، فقد كان يقصدهم كل من يسمع بهم. رجعت بها ذاكرتها إلى حين كانت طفلة، قالت لي: “دخل رجل نحيل حاني القامة بجلباب مهترئ وقدمين خشبيتين حافيتين، لسانه ثقيل النّطق لا يكاد السّامع يفهم ما يقوله، وتقول: كانت أبواب مضافات أجدادنا الحجريّة مفتوحة دائماً، أضافت: دخل هذا الضّيف القاصد وهو يتمتم: هوبث.. فنظرنا إليه باستغراب نحاول فهم ما قال، ويرحّب به جدّي (الصّالح) أهلاً بك تعال واجلس، فردّ عليه القاصد بـ تأتأة: هو.. هوبث! هنا نظر إليه جدّ والدتي فقال له: ماذا تعني؟ فقال: هوبث!! وتتابع والدتي: بقي هذا الرجل يردّد ويقول: هوبث.. حتى ظننا أنه مُطارد من أحد الخبثاء وجاء يحتمي بنا، لكن إصراره على تكرار لفظته جعل جدّتي وبفراسة الكرماء – كانت من أكرم النساء في عصرها – تكتشف ما يُريد هذا السّائل، فوقفت وقالت: أظنني عرفتُ قصده، وعلى الفور همست لابنتها (سكينة) لتُحضر هُبثاً: (خبزاً)، فتلبي طلبها بأقصى سرعة، وتأتي له بالخُبز.. وما إن رأى الخُبز حتى جحظت عيناه وعلت شهقته المكان، يأخذه ويقبّل أيدي جدّة والدتي التي ربّتها فتطبّعت بطباعها الخيّرة إلى أقصى حدود الكرم والجود.. ولأنّ الشّيء بالشّيء يُذكر، ومن جيل إلى جيل، أستذكر جيل العمّة (سلمى الشيخ أسعد)، الجيل الذي تربّى على فطرة الكرم والمحبة، الجيل الذي استمرّ بصنع خبز (التّنور)، والذي نراه اليوم بتقنية حديثة على طريق السّفر والرحلات! خبز يمزج بين الماضي والحاضر كنوع من التّراث المستمر. قالت لي صديقة ذات يوم (أم أيهم مرسل) وكانت شابة آنذاك، إنّ عمّتك كانت من النّساء الصّالحات وأكرمهن في عصرها وأمهرهن في صنع الخبز، إضافة إلى حياكتها لملابس الأحياء والأموات، وتتابع (سعاد زاهر) قائلة: عندما كنا نزور قريتكم كانت رائحة خبزها تصلنا من بعيد، فنتسارع ونتهافت إليها فتستقبلنا بملقاها وابتسامتها وطلّتها البهية وبكل سخاء، تقول: (أهلااا.. كلوا من خير الله.. ألف صحة على قلوبكم)، وتتابع: كنا في كل مرّة نأتي إليها وهي تخبز تقدم لنا كل ما في الطّبق من خبز! ونراها تعود به فارغاً إلى البيت لتعجن وتخبز من جديد، وتُطعمُ من جديد! الكرم شجاعة، وفي الكرم تلتقي السّماء بالأرض والآخرة بالدّنيا، والمحبّة كرم: “لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ”. ونحن على ذلك النّهج مستمرّون، ننفق ممّا نحب، فأنه أيَّ شيءٍ نوزّعه ينقص ما عدا المحبّة إذا أنفقناها زادت! هذا ما كان عليه أجدادنا، ونحن على نهج ما ورثناه عنهم سَائرون، ومهما كان من ضيقٍ وشظف، لا نسمح للظّروف ومهما قسَت علينا أن نكون غير أنفسنا، نحن نحن.. في الماضي والحاضر والمستقبل. ومن ليس له تاريخ ليس له حاضر، هكذا نكون في سورية الخير والمحبة منذ الأزل وإلى الآن.. وما أكثرَ كرمَكِ سوريتنا.. أرض الخير والعطاء والمحبة..
د. سحر أحمد علي