الوحدة:25-9-2022
الفكر متعة التوليد والاشتقاق واستنطاق الأشياء وردم الهوة الواسعة بين ظلمة الغسق وحمرة الشفق، وهو التوتر العظيم للعقل واقتحام الحياة بمختلف تشعبات دروبها وعدم الرضا بالجانب المكشوف من العالم, الذي يبدد كل سر ويجلو كل مبهم, والفكر النير ينصب لخدمة الإنسان وليس أذيته وخلق الأجواء لتوسيع أفق الإدراك, وهو الاستثمار الإنساني الأمثل لإنتاج ماهو في أشد الحاجة إليه الذي تطمئن إليه الأمم على حاضرها وتضمن به مستقبلها. المفكرون هم البوصلة التي توجه نحو قيم الحق والخير والعدالة, يتركون لأفكارهم العنان ويخترقون حالك الظلام بثاقب البصيرة والإلمام التام بغياهب العقل وخباياه وينيرون بأفكارهم ظلمات الحياة واضطرابها وقلقها, ويبنون قلاعاَ من الوعي, والمفكر مستثمر دائم للوقت يبقى في حالة تنصت وترصد اللقاء مع الأشياء وليس الأشخاص, يخلق ألف ريح تهب وألف نجمة تطلع, وكم يهون القلق والعذاب في مطاردة الأفكار المضنية وكما قال نزار قباني ذات يوم : (عندما يموت مبدع كبير, كأنه كوكب خرج عن مساره). المفكرون يحملون شعلة الحياة بالراقي والواعي من المفردات, يتركون بصمات أفكارهم على عقول الأجيال, صبرهم لا ينتهي يكتبون حتى آخر رذاذة, يموتون وتبقى أفكارهم تضيء دروب الأجيال القادمة, والمفكر رسول الكلمة القدوة التي ترفع الشأن والوعي والمنطق يقرأ الواقع جيداً وينغمس في تفاصيله ويلامس نبض همومه،يمتع فيما يكتب من قلب مترع بالقيم العليا والأهداف النبيلة, يعمل على نشر التنوير والوعي لتحصين الإنسان وإعادة إعماره … الكاتب البريطاني الإيرلندي الأصل جورج برناردشو أجاب عن سؤال بسيط من إحدى السيدات: (ماهي الاشتراكية) بمجلد ضخم يزيد عن ربع مليون كلمة, وسألته عن الرأسمالية فأشار إلى صلعته وإلى لحيته وقال بإيجاز شديد: (غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع ). الفكر الواضح لايحتاج إلى كثرة كلام، وأما الفكر الغامض فيحتاج إلى سيل منه، والفكر الرديء كالشجرة المريضة لا يأتي إلا بثمر رديء, والأفكار المتناقضة المتضاربة أشبه ما تكون بكشكول الشحاذ الذي يجمع فيه ضروب المآكل دون تمييز بين حلو ومالح وحامض ولفان, والفكر البائس ينظر إلى الأمور بمنظاره ذي العين الواحدة وجميع أفكاره تقع تحت بند الخيالات السقيمة والتصورات الرديئة ويأتي صوته كمؤذن مبحوح في المدن الصماء, يضيع في متاهات الأفكار البائسة السوداء التي تغزو رأسه وغير القابلة للتنفيذ, أفكار شريرة تحاول تسميم العقول وتعكير صفو الحياة … صموئيل بيكيت صاحب السوداوية في التفكير قال: (أنا الذي يبحث طويلاً عن زهرة في فم الغراب) ثم تحدث عن(عواءالأزهار) … ؟! الفكر والتفكير قضية هامة أمام العقل الفردي والجمعي العربي, لقد وقعت المجتمعات العربية في مطبات وأفخاخ كثيرة ولا يمكن لأحد أن ينكر الحال الرديء الذي وصلت إليه، ويأتي سوء التفكير وآلياته وأساليبه على رأس هذه الأسباب، حيث يلجأ العرب إلى طرق التفكير التقليدية ولا يجهدون إلى تطويرها كبقية الأمم، ما يترك مجتمعاتنا لقمة سائغة لأنصاف المتعلمين وأنصاف المثقفين وهم يصوغون القناعات. حيث صار للتفكير الصحيح والسليم والتفكير الإيجابي المنتج مدارسه وعلومه وطرائقه، مدارس إنسانية عامة تستخدم المنهج العقلي الإنساني القويم. التعويل دائماً على الفكر النير والثقافة الجمعية للخروج من الكهوف المعتمة التي تنام العقول والشعوب العربية بها، نحن نعيش في ظروف مختلفة كل الاختلاف عن ظروف من سبقنا، نحن مطالبون بالتفتيش عن كنوز العقل العربي والاستفادة من إنجازاته وتسليح المواطنين والأفراد في المجتمعات العربية بالمقدرة العقلية القادرة على الفهم والنقد والاختيار والتعرف عن كثب على المنجزات الحضارية الإنسانية العلمية والفكرية ومقارنتها بحالة الاستعصاء الحضاري العربي الراهن… فهناك دائماً من يصنع الأفكار، وهناك من يرضخ لها، وهل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون…؟! يقول وينستون تشرشل:(نهندس شوارعنا، لتعود فتهندس حياتنا) .
نعمان حميشة