الوحدة 17-9-2022
الانتخابات في أي بلد هي فرصة للتغيير وخاصة الانتخابات المحلية، ويمكن لهذه الانتخابات أن تفسح المجال كثيراً لحدوث تغيير جذري في توجهات الرأي العام وأن تساهم في نفس الوقت في عملية تعافي المجتمعات في ظروف مثل تلك التي تشهدها سورية منذ عشر سنوات فأكثر.
للانتخابات المحلية أهمية قصوى على غيرها من الانتخابات، فهي بوابة التغيير في المجتمع، ولكن لكي يحدث التغيير، هناك مجموعة من العوامل المطلوب توفرها لتحقيق هذه النقلة النوعية، وعلى رأسها أن يكون هناك تغيير في المتوقع من الانتخابات نفسها، إذ لا يعقل أن نعيد نفس تجاربنا السابقة ونتوقع أن نحصل منها على نتائج مغايرة، على سبيل المثال، في التجهيز للانتخابات المحلية في اللاذقية، نلاحظ بوضوح عزوف الناس عن التفكير بهذه الانتخابات ك فرصة للتغيير، وهذا اﻷمر سببه تخوفات الناس من تكرار التجارب السابقة العام 2014 و2018، وهي مخاوف محقة، بالنظر إلى أن الانتخابات أفرزت مجالس محلية فاسدة ومعطلة في نفس الوقت، فاسدة ﻷنها ركزت جهودها على مصالح فردية ضيقة في الغالب، ومعطلة ﻷنها لم تستفد من صلاحياتها التي يوفرها لها القانون 107، أي قانون الإدارة المحلية لعام 2011، والأمر الآخر في الانتخابات أنها تشهد ترشح نفس الشخصيات الفاسدة كل مرة، وكل مرة تفوز هذه الشخصيات ولكن كيف، هذا ما لا يعلم أسبابه الناس.
القانون 107 يعتبر وفق مشرعين قانونيين كثر، من أفضل قوانين الإدارة المحلية في المنطقة، وقد استفاد من تجارب الدول الأخرى، خاصة أنه يتبع ويركز على اللامركزية في الإدارة، ويقوم كذلك على مبادئ التشاركية والتنمية المحلية، وبنفس الوقت يركز على أن المجالس المنتخبة هي صاحبة السلطة الأعلى فيما يخص شؤون محافظتها ومدنها وبلداتها، وعليها واجب العمل والتحرك والمبادرة والإبداع، وعدم انتظار توجيهات القيادات العليا، وفي فعلها هذا، فهي تعزز حضور الهوية المحلية التي هي أساس الهوية الوطنية، وهي كذلك في سعيها لخدمة الناس، تخدمهم من منطلق المصالح المشتركة، بمعنى يشابه قول المثل الشعبي “الخير يعم، والشر يعم”.
إذاً، كيف يمكننا إقناع الناس بالمشاركة في انتخابات الإدارة المحلية القادمة؟ إن المدخل لذلك إقناع الناس أن هناك تغييراً أكيداً في الانتخابات، بدءاً من التوقف عن أي احتمال للتدخل في إجرائها، من قبل أي جهة كانت، وبهذه الطريقة يكون الرهان التالي على البرامج الانتخابية التي يلاحظ إهمالها من قبل غالبية المرشحين، وحتى في حال وجودها، فإنها لا تتضمن رغبات الناس الفعلية، وما تحتويه تكرار ممل بنفس المشاكل السابقة التي شبعنا كسوريين من تكرارها، وهي المشاكل الخدمية لا التنموية، من هاتف ومياه وكهرباء، دون أن يكون لمرشحي الدورات السابقة من حديث سوى عنها وبدون نتائج ملحوظة أو ملموسة.
تغيير البرامج الانتخابية نحو التركيز على طرح مفهوم “التنمية المحلية” بالتزامن مع الإدارة الخدمية، هو من المفاتيح التي لم تستخدم بعد في القانون 107، والسؤال لماذا لم يلحظ تعميم هذه الفكرة الناجحة في العديد من الدول في سورية ؟ وهذا النوع من التنمية، يكفل التخفيف من القيود الحكومية وتعزيز السلطة المحلية والتشاركية مع القطاعات الأهلية والمحلية والجمعيات والفاعلين في المجتمع عبر نظام يجمع كل هؤلاء في سباق مع التنمية.
يقصد باختصار شديد بمفهوم التنمية المحلية، عملية تنموية تنطلق من الوحدات الإدارية الصغيرة، من الأحياء وصولاً إلى المحافظة، والإقليم، تعطي الأسبقية لحاجات المجتمع المحلي (مثل الأحياء الصغيرة، القرى، البلدات)، وتتأسس على المشاركة الفعالة بين قطاعات المجتمع المختلفة، تقوم على تقييم الموارد المحلية وتوجيهها بشكل تشاركي بين الفاعلين في المجتمع بهدف تحقيق نمو حقيقي له يتميز باستدامته وفاعليته، والأهم تشاركيته بين الجميع.
لقد ظهر مفهوم التنمية المحلية كرد على مفاهيم وسياسات التنمية من “فوق”، واتخاذ القرارات دون مشاورة المعنيين بهذه القرارات، دون التشاور مع مكونات المجتمعات المحلية وحاجاتهم ورغباتهم، والأهم قدراتهم وإمكاناتهم، وتجب في حالتنا السورية، واللاذقية أولها، المطالبة بضرورة تطبيق مفهوم التنمية من تحت، المبنية على أساس استقلال الوحدات الإدارية، المحلية والإقليمية، والبلدات، عن سياسة التوجيه المركزي الحكومة.
هذا النمط من التنمية تتجه له الدول منذ سنوات، هو حل ناجح لمشاكل المجتمعات الصغيرة بعيداً عن مركزية الدولة المفرطة، وتعزز هذه التنمية التشاركية واللامركزية وتخفف الأعباء عن الدولة نفسها، وهناك بعض التجارب الناجحة سورياً في هذا المجال وإن لم تكن قد أخذت الصفة الرسمية أو القانونية بعد.
كمثال عن اللاذقية كوني من ساكنيها، هو مدينة أوغاريت التاريخية، وهذه المدينة الموقع لوحدها كفيلة في حال التعاون بين المجتمع الأهلي والمجالس المدنية المختصة، توفير آلاف فرص العمل، وهناك أمثلة عالمية معروفة لمواقع أقل أهمية من أوغاريت تجذب آلاف السياح، والسبب يعود إلى وجود مصلحة للمجتمع المحلي في تنميتها بعيداً عن الرؤية المركزية للأمر، ولكن حتى اﻵن فإن المركزية المفرطة وعدم الجرأة في العمل المحلي والتنمية المحلية، جعلا الموقع شبه منسي، وبالمقارنة فإن موقع مدينة جبيل اللبنانية، بيبلوس، يجذب سنوياً مئات آلاف السياح، نذكر ذلك ﻷن صفة اللاذقية اﻷولى هي السياحة والزراعة تالياً.
إن في اللاذقية، مدينة وريفاً، مئات الفاعلين الاقتصاديين والمجتمعين، ورجال وسيدات الأعمال، والرياديين في الأفكار، يمكن لهم تقديم الدعم المالي والاقتصادي والمعرفي، وما ينتظرونه هو تفعيل أدوارهم بشكل قانوني يبعد تأثير المتنفذين وطبقات الفساد المعروفة بتجاهلها لمشاكل المجتمع المحلي وتحويل كل أزمة إلى فرصة استثمارية.ه
هؤلاء الفاعلون ينتظرون تغيير آليات عمل المجالس المنتخبة القادمة كي تتحول من ثقافة الشكوى وتحميل الدولة وأجهزتها كل مشاكل مجتمعاتنا المحلية، إلى مرحلة العمل المشترك، الذي يحقق تجاوز الدور الخدمي إلى الدور التنموي، وهذا التحول يدفع إليه المصالح المشتركة بين المجتمع وقادته والفاعلين فيه والدولة.
في وضعنا السوري الراهن، نحتاج إلى انتخابات حرة ونزيهة وشفافة كي نشجع الناس على الاقتراب منها، ونحتاج كذلك إلى التنمية المحلية كبوابة رئيسية للامركزية والتشاركية بعيداً عن اﻹفراط في القرار الإداري والسياسي والمجتمعي، وعملية بناء البلاد تحتاج إلى تضافر جهود جميع الناس والفاعلين.
كمال شاهين