العـــــدد 9330
الثلاثـــــاء 9 نيســـــان 2019
في رحلة طويلة نسبياً من عمر البشرية، كان الساعد الأقوى فيها شغف المعرفة والفضول لاستفهام ما يحيط بالإنسان وكوكبه وكونه معاً، وكان الاستبصار هو الطريق الأوحد للنور عبر قراءة ذاتية وخارجية لكل ما يحدث، تبدأ بالسنوات الأولى ويكبر هذا الوعي والاستبصار لفترات تراكم معها عمر الفرد ولو بعمر نسبي قصير يضاف إلى حصيلة جمعية، ورغم اختلاف مستوى الوعي بما يدرك، وحسب معطيات عديدة روحية ومادية، وكيفية التعامل مع الملاحظات والقراءات ومفهومها والغوص في كل التفاصيل الماضية والحاضرة والمستقبلية التي تكشف الرؤية وتزيد الخبرة وتنوع الأجناس البشرية في مستويات من العطاء العقلي والإنساني.
لذلك بقيت القراءة هي الطريقة الواضحة للانطلاق نحو تكوين الحضارة التي بدأها الإنسان الأول بالخربشة والصور والنقش والرسم إلى أن توصل إلى الحرف ومنه إلى صناعة الورق وحالياً شاشة الحاسوب ووسائل تطوير الذات وتنمية المهارات الفردية التي تعزز الخبرات الحياتية وتجعل الإنسان أكثر وعياً حين تتوسع مداركه وتساعده ليكون أكثر قدرة على التعايش في شتى أمور الحياة، ضمن تشاركية لمعرفة الإنتاج الحياتي للشعوب الأخرى المنتشرة على هذا الكوكب، فالقراءة هي الثروة الحقيقية لكل وطن يسمو معها حين تخلق له هوية ثقافية تطبعه وتميزه عن باقي الأمم .
من أهمية القراءة وفعلها وأثرها العميق أكد العالم دوماً على أهمية القراءة الورقية ومنتوجها الفاعل في بناء المجتمعات وتنويرها وإيمانها بدور القراءة للسمو نحو معرفة حقيقية تقود نحو المعرفة التي هي الغاية الأسمى للحياة.
ولهذا سعت كل الأقوام والدول في انحيازاتها الجغرافية عبر حروبها واعتداءاتها، إلى محاربة العقل عبر تغييب دور القراءة بأساليب عدة منها حرق الكتب والمكتبات وكل ما يتعلق بمنتج معرفي بأساليب الاستبداد المختلفة لإغلاق العقول وإغراقها بالجهل وقتل الوعي مع قتل الإنسان، وتاريخنا مليء بقصص حرق الكتب والاعتداء على كل منتوج وحضاري .
ومع تغير أشكال الاستعمار وتحوله إلى أشكال أكثر تطوراً وديناميكية فقد فرض النظام العالمي الجديد أساليب أخرى للمعرفة، أخذت أنماطاً كثيرة منها الأسلوب الأخير ومفهوم القوة الناعمة، كله بهدف خلق نظام معرفي تديره أيادٍ مفكرة للسيطرة على العقول وتأطيرها بظواهر معرفية يسهل لها اقتيادها إلى المطارح والأفكار التي تريد، الأمر الذي يقود إلى جملة من التساؤلات عن مدى تأثير هذه الظواهر المعلبة القادمة إلينا عبر الفضاء ما جعل العالم بحق قرية كونية.
من هذا المنطلق الذي يدعونا إلى معرفة واستقراء تحليلي لواقعنا العربي الذي هجر فيه مواطنه القراءة بعد عصور ماضية مشرقة، نهلت منها الأمم المعارف واستهلت منها الكثير وبنت عليها وأسست حضاراتها الحالية الأمر الذي رفعها لتتصدر قائمة الدول المتقدمة بعلومها، ففي كتاب (قصة الحضارة) للكاتب (ويل ديورانت) قال فيه: «كان عند بعض الأمراء العرب كالصاحب بن عباد من الكتب بقدر ما في دور الكتب الأوروبية مجتمعة»، وتؤكد المستشرقة الألمانية (ريغريد هونكة) في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) الحقيقة ذاتها إذ تقول: «إن متوسط ما كانت تحتويه مكتبة خاصة لعربي في القرن العاشر الميلادي كان أكثر مما تحتويه كل مكتبات الغرب مجتمعة»، وها نحن العرب قد تراجعنا، وتراجعت نهضتنا العلمية والفكرية لتعود بمجتمعاتنا إلى عصور بينها وبين العالم الحالي فجوات كبيرة من المعرفة والعلوم، هذا التراجع الفكري إذا أردنا أن نستقرئ به واقعنا حيث هجر المواطن العربي القراءة والذي تعزى أسبابه لظروف عديدة تمثلت بظروف خارجية وذاتية وتراجع معها مستوى القراءة الموجهة كالمناهج الدراسية التي افتقرت إلى الجذب من ناحية المظهر والشكل وانعدمت بدورها مراكز البحث العلمي والثقافي، لتغدو القراءة هي قراءة استهلاكية تقوم على التصفح السريع والتأطير ضمن ثقافات إعلانية أو استهلاكية ولتنحصر القراءة في فئة سميت بالنخبة، حيث كانت الأمية سبباً رئيساً في هذا التفاوت مع ارتفاع نسب البطالة وتدهور الوضع المعيشي للمواطن العربي .
وفي هذه المآسي يكون الضعف المؤلم في غياب التواجد الإنساني العربي إنما بغياب القراءة وبالتالي الفهم الحقيقي للواقع الراهن وقد أصبحت القراءة معياراً واضحاً للتقدم والرقي وغيابها بعد عن الإنسان وازدهاره، ففي عام ١٩٩٣ شعر الفرنسيون بانخفاض في نسبة القراءة، حينها نزل وزير الثقافة الفرنسي ومعه كبار المؤلفين والكتّاب إلى الشوارع والحدائق العامة والمراكز الثقافية يقرؤون ويتحدثون مع الناس من حولهم عن القراءة والكتب في مهرجان عام أسموه (مهرجان جنون المطالعة) بهدف زيادة الوعي بأهمية القراءة ودورها في بناء الأمة، وفي أوروبا تمتلئ الساحات العامة بتماثيل وتحف تتوسط الشوارع تذكر دائماً بأهمية القراءة .
من هذا ومن واقع مؤلم لمنطقتنا العربية والتي وصفت بأنها لا تقرأ وإن قرأت لا تفهم والاحصائيات المؤلمة التي تقول بأن ما ينتجه العرب من الكتب بحدود ٢٠ ألف كتاب فقط سنوياً أي أقل مما تنتجه دولة مثل رومانيا، ويصدر العالم الغربي ودولة مثل بريطانيا ١٣٢ كتاباً في اليوم الواحد وروسيا ٢٢٥ كتاباً وأمريكا ٢٣٣ كتاباً وعدد مجلات الأطفال ٢٠٠ مجلة، بينما العرب لا تتعدى النسبة ٢ إلى ٤ كتب في اليوم الواحد، أما بالنسبة للقراءة فالعربي يقرأ ما يعادل ٦ دقائق سنوياً مقابل ٢٠٠ ساعة قراءة للأوروبي، أي ما يعادل ربع للأوروبي، أي ما يعادل ربع صفحة سنوياً بينما تصل مدلولاتها في أوروبا إلى ١١ كتاب للفرد سنوياً، وتشير إحصائيات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) أن متوسط القراءة الحرة للطفل العربي لا يتعدى بضع دقائق سنوياً في حين يبلغ نحو ١٢ ألف دقيقة في الدول الغربية.
لكن مع هذا وفي ظل الضغوط الخارجية والداخلية وغياب الموضوعية الإنتاجية في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كافة لا بد لنا من استنهاض العقل والتخطيط الاستراتيجي لإحياء الدور الحقيقي والفاعل للقراءة والبدء من الاهتمام الأول في الأسرة والمدرسة والجامعة، وتسليط الإعلام على هذا الدور الأهم، ولتخرج المكتبة إلى الناس لا أن تنتظر قدومهم إليها، لأهميتها في التنمية والتربية والبحث والثقافة، وإقامة المهرجانات المدروسة لهدف فتح نوافذ العقل ثانية على الاستبصار والنهوض للّحاق بأمم العالم ما أمكن، فالجهل فريسة سهلة للاصطياد، حان الوقت لأن ننهض ونعافي أنفسنا لنحمي أوطاننا ونغلق الأبواب على أي محاولة لتأطيرنا بعقول ومفاهيم الغير ولابد من المحاولة وسريعاً قبل أن ندفن بالحياة.
سلمى حلوم