صناعـــة الزجــاج الــيدوي.. فــنٌ يقــاوم الاندثــار.. كيف يمكن إحــياؤه

العدد: 9327 
4-4-2019

تعد صناعة الزجاج البلدي من أهم الصناعات التقليدية التي تستدعي الاهتمام بها، ففي الماضي اشتهرت هذه الصناعة وكان لها الاهتمام الواسع حيث ضُرب المثل بها، ويعود اكتشافها إلى بلاد الشام حيث اشتهرت دمشق بشكل خاص بصناعتها فهي تزخر بأنواع فريدة من المنتوجات الزجاجية التي تعود إلى مختلف العهود الرومانية وسائر العصور.

نقص الأيدي ذات الخبرة في صناعة الزجاج
كانت أفران الزجاج الصغيرة منتشرة على كامل سورية لتلبي متطلبات السوق المحلية والمجاورة نتيجة لما يتمتع بها أولئك الصناع المهرة من أصالة الممارسة وتذوق لروح الصنعة، ونتيجة لظروف الحياة وتطور صناعة الزجاج عالمياً واستيرادها فقد تعرضت للتراجع محلياً وذلك لأسباب عديدة.
ولمعرفة واقع الصناعة التقليدية للزجاج البلدي انطلقنا إلى شرائح متعددة من المواطنين وتحدثنا إلى باعة حول كيفية إحياء هذه الصناعة مرة أخرى من خلال المهرجانات وإقامة أسواق خاصة بها.

 

 

منافسة المستورد

تحدثنا مع /نبيل فياض/ أحد بائعي الزجاج المنزلي:
كانت هذه الحرفة صناعة يدوية رائجة باعتبارها صناعة تقليدية يعود عمرها إلى آلاف السنين فهي مطلوبة ولكن وجودها في الوقت الحالي يقاوم اندثارها، فمنذ سنوات كانت أحياء اللاذقية تحوي ورش صغيرة تعرض كافة أنواع الزجاج اليدوي التقليدي والمزخرف ولكن في الوقت الحالي انقرضت هذه الورش وعلى ما أعتقد لا يوجد في اللاذقية أي ورشة للزجاج اليدوي، فقد تعرضت للزوال والتآكل في ظل نقص الأيدي الخبيرة في صناعة الزجاج اليدوي.
ونوه فياض إلى عدم قدرة هذه المهنة على مجاراة الواقع مرجعاً ذلك إلى التطور التقني والتكنولوجي لصناعة الزجاج ومنافسة الصين بإغراق الأسواق بالزجاج بكافة أنواعه وأشكاله وحول المصانع الكبيرة لصناعة الزجاج في سورية، قال فياض: بأن هذه الصناعة تعطي الإحساس بالعراقة والأصالة كونها صناعة يدوية ولكن مع دخول التكنولوجيا والصناعات الحديثة والمعامل والاستيراد فقد تلاشت هذه الصناعة وظهر بديلاً عنها الكثير من الأنواع المختلفة حيث لم يعد هناك إلا القليل من المحلات التي تقوم ببيع هذه المنتجات اليوم.
روائع باقية
أحد المهتمين بالزجاج اليدوي/ أكرم موسى/ شرح لنا:
أن صناعة الزجاج اليدوي من أقدم المهن السورية حيث عرفت الحضارات القديمة في سورية فن الزجاج اليدوي ويقدر عمر المكتشفات الزجاجية 3500 عام، فقد كانت صناعة الزجاج منتشرة في مناطق متعددة وما زالت روائع من أعمالهم باقية في كثير من الواجهات والأبنية الأثرية ومنها ما هو محفوظ في المتاحف ولروائع هذه الصناعة الفنية اليدوية التي لا تتأثر بالتقلبات الجوية ولم تؤثر فيها حرارة الشمس طوال مئات السنين، وأضاف: كانت هذه الصناعة تُصنع بإتقان وما زال يُصنع منها حتى اليوم ولكن بقلة كون هذه المهنة في طريقها إلى الاندثار ومن هذه الصناعات الثريات والأقداح والأواني وأدوات الزينة والكثير من الأدوات المنزلية، حيث تعد حرفة الزجاج اليدوي من التصاميم العربية الملونة بالطريقة اليدوية فتصنع الأدوات الزجاجية بطريقة النفخ من زجاج يعاد تدويره ويتوفر بعدة ألوان الأزرق والأخضر والعنابي والتركوازي و يتم التلوين يدوياً بزخارف فضية أو ذهبية مع لمسة فنية أنيقة ومنفردة، ويقسم إلى عدة أنواع وفقاً لتركيبته ويدخل بعدة مراحل حتى يصل في النهاية إلى الأشكال التي نراها.

قلة الاهتمام
وتحدثنا مع /ياسر الكفيري/ الذي كان يعمل مع صاحب منشأة في إحدى الورشات الصغيرة الذي يتقن صناعة الزجاج اليدوي فقال: إن صناعة الزجاج البلدي فن، والحرفي هو من يقوم بتحديد الشكل والحجم النهائي للقطعة المراد تكوينها ولاحقاً نقوم بزخرفة وتلوين القطعة أو النقش عليها، فكنا نصنع الشرقيات الزجاجية والأكواب والثريات وكل ما له علاقة بالمنزل والزخرفات من خلال النفخ في الزجاج، وما يندرج على عاتق الحرفي في صناعة الزجاج التقليدي هو مهارات فنية عالية والتدرب المستمر لإتقان هذه المهنة، وأشار: على الحرفي تحمل درجات الحرارة المرتفعة أمام الفرن الخاص بصناعة الزجاج، ولابد من توفر القدرة الإبداعية والفنية لاكتساب المزيد من المهارات حتى يصل الحرفي إلى الإبداع في هذه المهنة التاريخية والحضارية لذلك وأمام واقعها وقلة الاهتمام بها من قبل الجهات المعنية لابد من إحياء هذه المهنة سواء بالنفخ أو الأفران الصغيرة كونها تراث حضاري ومهنة عريقة لها تاريخها القديم والحديث فهي تحتاج إلى مواكبة وتطور حتى تبقى معلماً من معالم البلد، وذكر: أن بصمة الحرفي الماهرة بقيت حتى اليوم السمة الأساسية في صناعة الزجاج اليدوي أو البلدي أو التقليدي.
في كل الأماكن
لابد من التعاطي مع هذه المهنة بشفافية من خلال إحياء صناعتها فلا أحد يستغني عن تقنيات هذه المهنة فهي وسيلة تكاد تشمل نواحي البناء والمعمار والديكور فمشهد صانع الزجاج وهو جالس أمام الفرن أو النفخ لا يكاد يفارق مخيلة الزائر نظراً للطريقة التي يقوم بها الحرفي في ابتكار أشكال مختلفة لقطع الزجاج عندما يقوم بنفخها.
وأمام فن وحضارة الزجاج اليدوي استمعنا أيضاً إلى شرائح كثيرة من المواطنين الذين لديهم اهتمام واسع باقتناء هذه المنتوجات لتزيين منازلهم نظراً لما تضيفه من أجواء عصرية وتاريخية من خلال تصميمها وألوانها وزخرفتها فهي مادة للأثاث الأنيق، ومادة لفن صناعة الزجاج اليدوي المزخرف، فقد نوهت /علا القصير/ إلى أن صناعة الزجاج اليدوي أصبحت من المهن القديمة وهي اليوم لا تتماشى مع ما يعرض من زجاج حديث ومستورد من كافة بلاد العالم، فالزجاج الصيني يغزو الأسواق بأشكال وألوان متعددة وبأسعار أقل بكثير من الزجاج اليدوي، وتعتبر هذه الحرفة من الصناعات القديمة جداً واليوم لم نعد نشاهد أياً من الورش التي كنا نراها سابقاً بالشوارع أو الحدائق لأن الأبناء لم ترث تلك المهنة عن الآباء وقد أصبحت فناً عريقاً من الماضي وهي اليوم تحفة أكثر مما هي استعمالاً أو تداولاً ولا يوجد من يحافظ على صناعة هذه المهنة.
وترى /لينا جديد/ بأن هذه المهنة لا تلقى اهتماماً من بعض المواطنين بظل العروضات الكثيرة بالأسواق والاستيراد من كافة أنحاء العالم، وأن دمشق فقط التي تشتهر اليوم بصناعة الزجاج اليدوي أكثر من المحافظات حيث أن أكثر بيوت مدينة دمشق القديمة تقتني هذه الصناعة حيث لا يخلو منزل من هذه الأدوات على كافة أنواعها وأشكالها وصناعتها ومن خلال معرفتي لا يخلو مسجد أو كنيسة من صناعات الزجاج اليدوي واليوم لا يعمل بهذه المهنة إلا العدد القليل من الحرفيين وهم يتواجدون حصراً في دمشق، أما باقي المحافظات فقد اندثرت هذه الحرفة بشكل كامل فلم يعد يعمل بها إلا القليل ولا يوجد من يمارسها مشيرة إلى أن العديد من السياح أو المغتربين الذين يقصدون دمشق يقتنون قطعاً من الزجاج اليدوي أو الدمشقي.
التحديث ضرورة للاستمرار
بنظرة فاحصة للزجاج البلدي يعني الرقة في الشيء وأصله هو الشخص الذي يصنع الزجاج ويشكل منه المصنوعات ويستخدم في مجالات عدة، ولكن لا يوجد في محافظة اللاذقية من يمارس هذه الحرفة علماً أنها هوية سورية عامة ودمشقية خاصة حيث اختصت بها مختلف المحافظات السورية في وقت ما، أما اليوم ماذا حل بها وما هو موقعها ميدانياً وكيف يمكن إحياء تلك المهنة الشعبية العريقة؟ رغبنا أن نتقصى واقع هذه الحرفة من خلال ما حدثنا به السيد جهاد طه برو رئيس اتحاد الحرفيين في اللاذقية الذي قال:إن حب الاطلاع والمعرفة من صفات الإنسان لذلك اهتم العلماء بتاريخ اكتشاف الزجاج وقد تمكن سكان ما بين النهرين من معرفة الصناعات الكيميائية ولاسيما صناعة الفخار واكتشفوا الزجاج قبل أربعة آلاف عام، ولكن يرجح أن الفينيقيون هم من اكتشف الزجاج حوالي الألف الثاني ق.م ، فقد بدأوا يصهرونه في الأشكال البسيطة وصنعوا منه أشكالاً مستديرة ثم ثقبها متخذين منها حبات لعقود تزيين النساء، ثم اكتشفوا النفخ والتفنن في تنويع المصنوعات الزجاجية فعملوا الكاسات والقوارير والصواني وأواني الاستعمال العادية، وظلت صناعة الزجاج مزدهرة في فينيقية الساحلية، ومنها انتقلت إلى غيرها من البلدان عبر تجارتهم.
وأفاد برو: بأن سورية كانت المركز الرئيسي لصناعة الزجاج في الامبراطورية الرومانية وأن الزجاجيين الذي قدموا من الشرق الأدنى كانوا سبب إيجاد وازدهار مراكز مهمة للزجاج في الامبراطورية الرومانية وقد اشتهر عدداً من الزجاجيين السوريين في صناعة الزجاج في مدن الشاطئ السوري ولاسيما صيدا وصور أمثال /انيون دارناس/ وغيرهما من الزجاجيين السوريين الذين تركوا تواقيعهم على عدد من الروائع الزجاجية التي أبدعوها فانتقلت من يد إلى أخرى حتى وصل بعضها إلى عدد من المتاحف العالمية كمتحف نيويورك وغيرها من المتاحف العالمية. وقد عثر في عدة مدن كمدينة البندقية ومدن فرنسا على قماقم زجاجية عليها زخارف اشتهر بها صناع الزجاج الفينيقيين الذين كانوا في الطليعة وينسب بعض المؤرخين سبب هذه الشهرة وازدهارها إلى جودة الرمل في الساحل السوري.
وأضاف برو: مرت صناعة الزجاج في مراحل تطور الخبرة والمهارة وابتكار طرائق مختلفة لصناعة الزجاج كونه يدخل في استعمالات كثيرة وأشكال وألوان مختلفة حيث أول من استعمل الزجاج المعشق زمن البيزنطيين وقد كان يعشق بالمعدن ويوضع في الكنائس وقد استعملوا تعشيق الزجاج مع الجص بدلاً من المعدن وذلك لأن الجص أقل كلفة وأكثر ملائمة لمناخ الساحل السوري، وتعد صناعة الزجاج في القطر العربي السوري من أقدم الصناعات المحلية وأكثرها عراقة وأهمية وأوسعها انتشاراً في الأسواق المحلية والخارجية والتي تعود إلى عهد الفينيقيين أول من اكتشف هذه الصناعة.
وذكر برو: في الواقع ليس هناك كصناعة الزجاج صناعة فنية تتطلب خبرة عملية وعناية فائقة واطلاعاً واسعاً وذوقاً فنياً ومفهوماً جمالياً، ولكن هذه الصناعة رغم عراقتها مرت بمراحل اضمحلال عبر التاريخ وأضاف برو: الأمر الذي يتوجب على ضرورة إحياء هذه الصناعة من خلال دعمها ورعايتها وإنشاء معامل تضمن استمراريتها وترسيخ الخبرة الفنية والعراقة التاريخية لهذه الصناعة وفرض قيود على الصناعات الأجنبية لتمكين الصناعة المحلية من البقاء والاستمرار.

بثينة منى 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار