جذور.. وقصور

العدد: 9325

2-4-2019

 

اعتادوا أنْ يطلّوا متواعدين على أراضيهم التي طالما عشقوها، وتناغمت صباحاتهم اليوميّة ممزوجةً بمزاجهم المتفائل للذّهاب إليها كلّ فجرٍ، كلّ صباحٍ.
كانت أغنيات الصّيف تملأ فضاء حيويّتهم ونشاطهم، المعاول والفؤوس والركّاشات التي يَلمع معدنها مع بزوغ أوّل خيوط الشّمس.
لقد سَبقتْهم الفراشَات والعصَافير وجمَاعات النّحلِ ممّا هيَّؤوا لها بيوتاً نموذجيّة وغذاءً يتوِّجُهُ زهر اللّيمون!
تجمّعت الفتيات في مداعبةٍ صباحيّةٍ تثيرُ وتحفِّزُ نَشاطهنّ قبل العمل، فأسرعْنَ إلى قطاف زهور اللّيمون ليصنعنَ منه عقداً ولا أجمل يُزيِّنَّ صُدورهنّ به متباهينَ بجمال نحورهنّ، متراكضات، متغاويات، فوق تربة تحملُ دعسَات أقدامهنّ المتراقصة على أنغامِ أغنيةٍ ساحليّةٍ شعبيّةٍ يردّدْنَها بعفْوِيّة الصوت: (عَلى دَلعونا وعلى دَلعونا. . وريحة أنفاسك زَهر اللَّيمونَا)..
فتبتهج الأرض لأصواتهنّ مع خطبة أقدامهنّ الدّابكة راسمةً بحفرِها النّاعمةِ ابتسامةً هادئةً..
كلّ شيءٍ من حولهنّ يبعث بالحياة بالتجدّد بالنّور.. الذي يشعّ من أشعّة الشّمس الأرجوانيّة، فيزداد وهجها كلّما تقاربت دقائق الصّباح لافتتاح نهارٍ جديدٍ، إنّها تعكس فرحاً وسروراً يزيدهنّ حبّاً وإقبالاً لحيويّةِ الحياة ولروحِ العمل، بل حبّاً لنعمةٍ تبدو لهنَّ مطلق الحياة السّعيدة، العصافير من حولهنّ تشدو كفرقة موسيقيّة..
باشرنَ العمل وكلّ يدٍ تمسكُ بركّاشةٍ تقلِّبُ تربة الشّجرة المخصَّصة، فالأشجار تشتاقُ كلّ حينٍ لتتنفَّسُ هواءً جديداً من خلال فتح نوافذ تربة منازلها.
تستمرّ الفتيات على مواظبةِ العمل مع أحاديثَ جانبيّةٍ يتقصَّدن بها السّرور والضّحك عملاً بحكمةٍ: (مَا تُعطيهُ بقلبٍ واسعٍ يُعطيكَ بقلبٍ أوسع منهُ!!)
وتمضي ساعات النّهار، فلا يشعرْنَ بتعبٍ ولا بكللٍ، إنّما الجوع يلاطف مِعَدِهنّ بزقزقةٍ تهمسُ لأيديهنَّ اللاتي غَسَلْنَها بماءِ النّبع القريب، فيقْبِلْنَ على فتح زوّاداتهنّ، بطاطا مسلوقة مع زيت الزّيتون وقليل من الملح مع خبزٍ ريفيّ، يشعرنَ بلذّة الطعام بعد مجهودٍ يبدو سعيداً لهنّ.
إنّه شعور الملكات المحصَّنات، سيّدات أرض في قصورٍ مزخرفةٍ بأجملِ مَصَاغٍ من ترابِ أطهر الأرض، وحاشية من شجرٍ وخضرةٍ وأزاهيرَ من روعةِ الخالق، ومرآة سحريّة تعكسُ محبّةَ تاريخٍ مجيدٍ مضى يحثّهنّ على مزيدٍ من دفقِ العطاء!ِ
إنّها التّربة السوريّة لا تحبّ العزلة، ولا تحبّ الحزن، لا تحبّ الإهمال، تحبّ حاضراً ملْؤُه التّعاضد والتّكاتف في مستقبلٍ مشرقٍ بالتّسامح والسّلام.
أجل، بهذه الهمّة، وهذه المعنويّة، وهذه الرّوح الجماعيّة في المحبّة، والتآلف، وبراءة النّفوس والقلوب، وبراعة الأيدي، تُثمرُ الأرض ونُعيدُ بالعمل إليها بهجتها وعطاءَها.
غربت الشّمس وعُدْنَ أدراجهنّ، ولكنْ ليومٍ جديدٍ يعاودْنَ اللقاء ثانيةً!
إنّها (المدرسة الزراعيّة السوريّة) الحافلة بكرمِ كرومها وتينها وزيتونها وليمونها ولوزيّاتها وقمحها وتفّاحها وكرزها، في كلّ مكانٍ منها (من شمالِها إلى شرقِها وجنوبِها وغربِها)، بُنْيَةٌ أرضيّةٌ زراعيّةٌ واحدةٌ (من الجذورِ إلى القصورِ)، وأيّ قصرٍ أجملُ من ترابك سوريّة الحبيبة، كلُّ فردٍ منّا يرى نفسه مالكاً لأرضِك المعطاءَة ومسؤولاً عنها، بل ملكاً عليها، سنستمرّ عطاءً.. سنستمرّ بناءً!

د. سـحر أحمد علي

تصفح المزيد..
آخر الأخبار