الفنان محمد بدر حمدان: الإبداع يأتي من زخـــم معرفي والفنان هو الذي يستطيع تجـــــاوز المألوف

العـــــدد 9323

الأحـــــــــــد31 آذار 2019

 

بعد ولادة شقيقين، وتعسّر سلامة أشقاء، جاء محمد ليتربع على عرش القلوب في الأسرة الريفية الساحلية، فاهتم أهله بتثقيفه وتوفير ما يؤهل هذا الوافد الجديد ليصل بأحلامهم إلى السماء، وهكذا وجد نفسه في عمر صغير يمتلك كتب جبران خليل جبران، ويرسم قريته «بكسا» بألوان كانت قلة قليلة جداً تتمكن من اقتنائها. في رحلة مميزة مع اللون والكلمة مضينا مع الفنان محمد بدر حمدان، تحاورنا في هموم وطموحات، واسترجعنا معه مصادر ثقافته الأولى في تلك البيئة النقية حيث قال:
أول كتاب قمت بقراءته بصرياً هو المكان الذي نشأت فيه وقد عرفت كيف أرى الأشكال الفاتنة المختلطة بملامحها بشكل عفوي تلقائي، حيث تمتزج الدالية بجذوع الشجرة الحارسة لمدخل البيت المملوء بالحكايات والطقوس الزراعية، وكانت شجرة الزيتون لا تخجل من الرقص مع الريح مستحمة بخيوط الماء العازف لنشيد الحياة، هناك وسط هذا الرحم الثاني الذي احتضنني بتكويناته الطبيعية كان كل طقس يدفعني إلى المستقبل بمعنى المحبة وكنت أواصل القراءة حتى اكتمال الوجوه الصابرة المتعبة على عتبات البيوت تنتظر المستقبل أن يكون أجمل بمعنى قلقها الدائم من الماضي وما مرّ من قسوته ومرارته السوداء، وجوه أهلي التي رسم الزمان عليها كل خطوطه كأنهم أشجار زيتون تثمر كلما حان الغناء ولا تلتفت إلى الخلف ولم أكن ألتفت.

* هل أعمالك انعكاس لقيمك الروحية والنفسية أم هي نوع من الثقافة، وما الذي جعلها تكتسب خصوصية ميزتها عن غيرها؟
** منذ حواري الأول رسمت الإنسان الذي كان موضوع اللوحة الأساسي على مدى آلاف اللوحات ولا زال، بمعنى أنني أفلسف حياتي عن طريق المفردات التشكيلية التي أختار الوجه الإنساني بكل تفاصيله كصفحة تحتضن عملي البصري الذي لا يزال يرصد الإنسان بكل تجلياته، وهذا ما تتميز به أعمالي على لسان النقاد والمتذوقين للفن، قابلت في معارضي أشخاصاً قالوا إنهم خرجوا من لوحاتي ورأيت أشخاصاً كنت قد رسمتهم دون أن أراهم أو أعرف عنهم شيئاً، وفي هذا إيحاء جميل إلى أن اللوحة تتعامل وتتفاعل مع الآخر الذي لا تعرفه وفي أحيان تصاب بالدهشة لكثرة المعجبين، ويختلط المشهد بيني وبين اللوحة حتى أننا لا نعرف بعضنا عن الآخر.

* هل تختار زمن لوحاتك أم ذلك يأتي بشــكل تلقائي؟
** اللوحة لها زمنها الذي يغلفها مثل شرنقة ويحملها إلى سيرورة الزمان، ذلك أن العمل الإبداعي يكون زمنياً، وقد يقف الزمان بين حناياه، هناك أعمال إبداعية كثيرة أسست لأزمنة جديدة بدأت منذ ولادتها وبقيت ترقص مختالة على مسرح الزمان وهذا يحصل في شتى حالات وأشكال الفنون، وأنا أولد من جديد مع كل عمل أنتجه ويشكل عندي زمناً آخر ليس كالزمان زمن لا يشبه إلا نفسه.
* هل المبدع مطالب اليوم أن يتحصن معرفياً ضمن اختصاصه أم لابد له من أن يغرف من فروع المعرفة الكثيرة؟
** الفنان هو أحد أهم صانعي الثقافة البشرية على مدى تاريخها، وبالتالي لا بد أن يكون باحثاً جاداً في أروقة الثقافة في عصره، ذلك أن الإبداع المتميز يأتي من زخم معرفي متميز ومختلف، والفنان هو الحالم الذي يستطيع تجاوز المألوف والمتكرر ولا بد أن يعوم على بحر من الثقافة بشتى أشكال الاطلاع والتحصيل ولا أقصد شهادات التحصيل العلمي بل الاستقصاء والحلم إلى أبعد حدود المشتهى.
* ما هو دور الفن التشكيلي من الناحية الجمالية وما هي وظيفته في خدمة الإنسان؟
** الفن التشكيلي بكل أطيافه هو من يقدم معيار الجمال للمدنية بكافة أشكالها ومنذ زمن الكهوف حتى الآن لا تتطور المدنيات إلا من خلال فنونها التي تبدعها، وبالتالي تبني ثقافتها الخاصة التي تليق بها، وقد لعب الفن الدور الأساسي في بناء المكان، وأسهم في خلق مدنية تليق بالإنسان وحياته وقد قالت لنا الحضارة ومدنياتها، إن الأمم التي لا تبدع فنونها هي أمم زائلة ويعلوها غبار التاريخ.
* كيف تصف المشهد العام للفن التشكيلي في سورية، وكيف تقيّم دوره؟
** كلما أرادت المدنية الحديثة أن تتطور سوف تشعر بالحاجة الماسة للفنون ومن هنا تأتي أهمية الفن بكل أشكاله، حيث يظهر الفنان صانعاً للحياة بأنماطها وملامحها وفي سورية هناك حركة فنية حديثة تتخبط بحثاً عن ملامحها السورية وهناك أسباب قاسية أوصلت الفنان إلى هذا الحال من التشتت، أول هذه الأسباب هو النتائج السوداء لما جرى في واقع الحرب والسبب الثاني هو التخبط في التقنيات ووسائل الاتصال واستسهال معايير إنتاج العمل الفني، ولكني متأكد بأن هذا الكم الكثير من إنتاج ما يسمى عملاً فنياً سوف يفصح في النهاية عن إبداعات جديدة وتجارب فنية جديرة بالاحترام.
* اللون بمثابة الأوتار التي يعزف عليها التشكيلي موسيقاه وهي التي تنبع من داخل المبدع لتؤثر في المتلقي، ما مدى التواصل الإيجابي الذي تخلقه اللوحة بينك وبين المتلقي؟
** الإشارات البصرية التي يرسلها الشكل للمتلقي قد تختلف عن الإشارات اللونية التي يبثها اللون وذلك حسب الثقافة التي يمتلكها المتلقي للعمل الفني، وكما يلبس البعض الألوان القاتمة والسوداء للإفصاح عن طقس الحزن يفصح البعض عن حزنهم بألوان يغلب عليها الأبيض، وهناك ألوان ثقيلة وألوان خفيفة تمنح المشهد بعداً آخر غير مرئي ينبع من تفاعل كيمياء اللون في عمق المتلقي ولا ننسى أن الأزرق هو لون الكثافة التي تمنح البحر لوناً لا يرتديه وتفصح عن عمق المشهد بضباب لوني يعلوه القلق وقد يكون الأصفر لوناً نقياً للمحبة والأحمر الراقص قد يكون جسد الحياة والبرتقالي حكيمها.
* المرأة… كيف رسمتها في حياتك الفنية والاجتماعية؟
** وجدت نفسي بعد آلاف الأعمال أنني لا أهتم لموضوع المرأة والرجل بل كان اهتمامي بالإنسان الذي هو قيمة معرفية أرقى من كل التقسيمات الطبقية وحالات الملكية وما شابه، وهكذا في حياتي كانت الإنسانية غاية وليست وسيلة وكان حضور أمي في المشهد مماثلاً لحضور أبي ولم أكن أقبل التفريق بينهما في المعنى المعرفي للحياة وقد صافحت الكثير من الصفحات البيضاء ووشمتها بندى المحبة بانياً فوق بياضها أحلامي الراغبة في الإفصاح عن ألق العشق للحرية، الرافضة لكل أنواع حجب الضوء الساطع من ماء الجمال.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار