الوحدة : 27-5-2022
لطالما كان هذا الإنسان في رحلته البشرية دائم التعبير عن مكنونات روحه وجدلية تفكيره مع الذات والمحيط به، وكم تنوعت تلك الطرائق التعبيرية والمحاولات الحثيثة لتأريخها دائماً وبكل الممكن والمستطاع من أساليب التدوين كالأدب والفنون بأنواعها وأشكال عديدة أخرى مازالت تتطور وتطور نفسها، تعلن عن مفرزات ذلك العناق تارة،والخصام تارة أخرى بين العقل والقلب، وما أثّر وتأثر في تلك الطبيعة التكوينية للإنسان. الشعر هو إحدى وسائل التعبير الوجدانية التي شدا بها الإنسان، ينمق كلامه ما استطاع، لتصل الصورة الحاكية إلى الإنسان الآخر مهما بعُدَتْ المسافة أو قصُرَتْ، لم يندثر الشعر ولمْ يغب عن الحضور الإنساني في كل المجتمعات وعبر كل العصور، لكن هيكليته وتكوينه التركيبي تغير مع تغير البيئات والتطور الذي طرأ على الحياة الإنسانية، وتطبع بطابع الأرض التي يعيش عليها، يصطبغ بالتحولات المجتمعية والشخصية. (الهايكو) نوع شعري جديد على العالم، منشؤه اليابان، انتشر انتشاراً سريعاً جداً عبر المجتمعات، تكتبه كل الشعوب وبلغتها الأم محتفظة بقواعده الأساسية مع جدلية مازالت قائمة حول ما يُمثّل القواعد الأساسية التي تضبط كتابة القصيدة، حتى بعد مراعاة الاختلافات بين اللغة اليابانية واللغات الأخرى، وصار لكل بلد هايكو مسمى باسمها، كما كثرت الملتقيات والروابط الأدبية التي تجمع كتاب الهايكو من مختلف الجنسيات والأعراق. يعكس شعر الهايكو بقالبه البسيط نموذجاً مُصغراً من العالم وفي أقل قدر ممكن من الكلمات، ترسم قصائده فضاءً شاسع المعنى أمام خيال القُرّاء والكتاب الذين استلهموا قصائدهم من التضادات الطبيعية والحركية والروحية في إيجازٍ وعمق ووضوح. وبالعودة إلى تاريخ شعر الهايكو فقد أُرِّخَ أنه انبثق من أحد أشكال الشعر الياباني الذي عُرف باسم الهايكاي (هايكاي –رينغا) خلال القرن السادس عشر، والذي تطوّر كشكل من أشكال الشعر الياباني الكلاسيكي المعروف باسم (الرينغا)، وخلافاً لقصيدة (الرينغا) التي ذاع صيتها خلال العصور الوسطى ( 1186-1600) في اليابان باعتبارها فنّاً شعرياً تقليدياً عريقاً كان يُكتب بشكل جماعي على يد مجموعة من الشعراء، برز شعر الهايكاي (هايكاي- رينغا) كشكل من أشكال الشعر الكوميدي، ولاقى رواجاً واسعاً لدى العامة، نظراً لانزياحه عن المواضيع التقليدية التي تناولتها قصيدة (الرينغا)، وتركيزه على الأحداث اليومية بطريقة هزلية من خلال التلاعب بالكلمات، فعلى غرار قصيدة (الرينغا)، ظلّت قصيدة (هايكاي – رينغا) تحتفظ بأبيات شعرية ذات نسق إيقاعي، ويعتبر الشاعر الياباني ماتسويو باشو (1644- 1694) من أشهر شعراء (هايكاي –رينغا)، الذي عمد إلى تناقل البيت الأول من القصيدة، المعروف بـ (الهوكو) بمثابة قصيدة مستقلة، أو من خلال تضمينه بالكتابة النثرية المعروفة ب (هايبون)، تلك التي تأتي فيها قصيدة الهوكو مصاحبة لما كُتب من يوميّات أو مقالات أو مذكّرات السفر والترحال. ويعتبر الكتّاب أنّ قصيدة (الهوكو) تظلّ في الأصل البيت الأول من شعر (هايكاي- رينغا)، وتختلف بذلك عن قصيدة الهايكو الحداثية التي تُكتب بشكل مستقلّ منذ البداية، مع ذلك، ظلّ الباحثون والمترجمون خلال القرن العشرين في الغرب يُطلقون اسم قصيدة (الهايكو) على قصائد(الهوكو) التقليدية التي كتبها الشاعر باشو، دون تمييزها عن مفهوم (الهايكو) في العصر الحديث. كان أوّل من قدّم قصيدة الهايكو بقالبها الحداثي هو الشاعر الياباني ماساوكا شيكي (1867- 1902), تأثّر شيكي بالفلسفة والأدب الغربيين ضمن موجات التأثير الغربي الهائلة التي اجتاحت اليابان في أواخر القرن التاسع عشر الأمر الذي جعل شيكي ينتقد شعر هايكاي- رينغا الذي كتبه باشو لما يحمله من خصائص نثرية وتفسيرية، ووجد في خصائص الأدب الغربي من إيجاز وواقعية وتركيز على التجربة الفردية مرجعيةً للإطار الحداثي الذي ميّز قصائد الهايكو لديه، ورغم اعتقاد الأدباء والنقاد بأن الحداثية ذات مرجعية يابانية، يزعم الناقد والبروفيسور الياباني هارو شيرانيه أنّها استلهمت خصائصها الحداثية من الفكر الغربي، ويرى أنّ حركة الشعر الأنجلو- أمريكي الحداثية خلال القرن العشرين قد أثّرت على مفاهيم قصيدة الهايكو اليابانية في العصر الحديث، ولكن، تظلّ هذه الرؤى حول تأثّر قصيدة الهايكو اليابانية بشعر الحداثة الغربي رهينة المنظور الذي رآها شعراء الغرب من خلاله. وما بين الجدلية الدائرة عن جنسية الهايكو وأصل تأثره ونتاجه الحديث، تبقى قصيدة الهايكو ذات حضور فاعل ومؤثر، ولها جماهيريتها في العالم، لما تحمله من إيجاز في إيصال فكرة بطريقة شفافة عميقة موجزة تحمل فلسفتها وتختصر الطرق إلى روح وعقل المتلقي.
سلمى حلوم