عمر الخيّام والرباعيات

الوحدة : 18-5-2022

 

تحتفل الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الثامن عشر من أيار من كل عام بعالم عظيم هو عمر الخيّام. واسم هذا العالم يقترن في الذاكرة العربية المعاصرة بأغنية “رباعيات الخيام” التي غنتها السيدة أم كلثوم، ولذلك يتوهّم كثيرون أن عمر الخيّام كان شاعراً فحسب، ولكن الحقّ أنه بل كان، في المقام الأول، عالماً عظيماً من علماء الفلسفة والرياضيات والفلك. وقد يكون من المثير للدهشة أن نعرف أنه أنشأ مرصداً فلكياً، بطلب من الوزير نظام الملك، وأجرى مع فريق عمله رصداً فلكياً دقيقاً بغية مراجعة التقويم الفارسي، وفي عام 1079 أنهى مع فريقة قياس طول السنة بدقة مذهلة، وابتكر تقويماً يُعدّ الأكثر دقة على الإطلاق. وعمر الخيام هو غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيّام، ولد سنة 1048 في نيسابور التي كانت عاصمة خراسان ذات يوم، كما كانت من أشهر مراكز الثقافة والعمران والتجارة في العصر العباسي. وفي نيسابور هذه أمضى عمر سنوات طفولته، ومطلع شبابه الذي قضاه بدراسة العلوم والرياضيات والفلسفة وعلم الفلك، قبل أن يسافر إلى بخارى في عام 1068، ثم إلى سمرقند في عام 1070 حيث كتب أعماله الجبريّة الأكثر شهرة. وفي عام 1073، ولم يكن قد تجاوز السادسة والعشرين من عمره، عُيِّن مستشاراً للسلطان ملك شاه الأوّل، ثم دعاه الوزير نظام الملك عام 1076 إلى أصفهان بغية الاستفادة منه في المكتبات ومراكز التعليم. وفي ذلك الوقت بدأ بدراسة أعمال عالم الرياضيات اليونانيّ إقليدس. بعد وفاة السلطان ملك شاه ووزيره دعا السلطان “الجديد سنجار” عمر الخيام إلى مدينة مرو الشاهجان للعمل فلكياً للبلاط الملكي. ولكن حالته الصحية تدهورت فيما بعد، فسمح له بالعودة إلى مسقط رأسه نيسابور ليقضي بقية حياته في عزلة عن الناس إلى أن توفي في الرابع من ديسمبر عام 1131 عن عمر يناهز 83 عامًاً، ودفن في موضع الآن يسمى اليوم ضريح عمر الخيّام. والرباعيات جمع رباعية، وهي مقطوعة شعرية تتألف من أربعة أبيات يكون الأول والثاني والرابع منها على روي واحد، في حين يأتي الثالث غير مقيد بهذا الروي. ورباعيات الخيام هي جملة من هذه المقطوعات، كُتبت بالفارسية، واختلف الناس في عددها، بل وفي نسبة بعضها إلى الخيام، ولا غرابة في ذلك؛ إذ إنها لم تظهر إلاّ بعد وفاته بثلاثة قرون، وكأنّ أحداً من معاصري الخيّام لم يجمعها خلال حياته، فبقيت في ذاكرة الناس وعلى ألسنتهم، وهذا وحده يقوّي احتمال أن يكون قد طرأ عليها قدر من التغيير، زيادة أو تبديلاً أو غير ذلك. ثم إنه من المعروف أنّ الشعر الذي يلامس وجدان الناس ويعبّر على نحو دقيق عما في نفوسهم يحظى بانتشار واسع، ويصير أشبه بالموروث الجمعي الذي لا يخصّ فرداً بعينه، بل يقبل الإضافة إليه من كل من تقبل الجماعة إضافته، ولدينا في الشعر العذري، ولاسيما شعر مجنون ليلى، ما ينهض دليلا على ذلك. وأوّل ترجمة للرباعيات كانت للغة الانكليزية، وظهرت سنة 1859، ثم تُرجِمتْ ترجمات كثيرة، أجنبية وعربية، ولكن الترجمة العربية التي حظيت بالشهرة الواسعة هي ترجمة الشاعر المصري أحمد رامي، ولا شكّ في أنّ غناء أم كلثوم لهذه الترجمة قد أسهم في شهرتها، غير أنّ الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أنّ إبداع رامي في الترجمة كان المؤهّل الأول لهذه الشهرة. والخيام يعبّر في رباعياته عن وعيه بالحياة الإنسانية التي لا حقيقة فيها سوى الموت، ولا غرو بعد ذلك أن نراه يدعو إلى مسابقة الموت باغتنام الملذات، وأن يشير إلى تعدد الاعتقادات التي يستعين بها الإنسان في سبيل تجاوز قلق المصير، وهذا ما جعل كثيرين يذهبون إلى اتهامه بالإلحاد، أو الكفر، حتى لقد ذهب بعض القدماء إلى القول بأنّ أداءه فريضة الحجّ لم تكن سوى محاولة منه للتستر على عدم إيمانه. والحقّ أن اتهام الرجل بالإلحاد أو الكفر بناء على رباعياته فيه غير قليل من التجني؛ فلغة الشعر لغة فنيّة وليست “وثيقة” تاريخية ذاتية، بمعنى أنّ الألفاظ فيه لا تستقر على معنى معجمي واحد، ولا تدلّ على معنى محدّد على نحو مباشر. والصورة في الشعر تسعى إلى استثارة التخييل وليس إلى تقديم صورة محددة الملامح. ولكن مع ذلك كلّه، فإنّ الخيام يعبر في رباعياته عن إيمان راسخ بالله وبالمعاد والحساب، وهذا يدعو إلى إعادة قراءة الرباعيات بعد ضبط دلالات ألفاظها بما ينسجم مع هذا الإيمان. إنّ دعوة الخيام إلى اغتنام اللذات، مثلاً، لا تعني دعوة إلى اقتحام المحرمات، لأنّ في الحلال لذات كثيرة أيضاً، وعندما يعلن عن حيرته بين الفِكَر، لا يريد بالضرورة أنه حار بين المذاهب والمعتقدات فضلَ عن المعتقد الحقّ ولم يعرف إليه سبيلاً، فربما أراد التعبير عن موقفه من اختلاف الناس في آرائهم ومذاهبهم ومشاربهم، وادّعاء كل جماعة منهم أنها تمتلك الحقيقة التي يجوز محاربة من خالفها بتهمة الكفر. وعلى أيّ حال فإن الحكم على الخيّام بالإيمان أو بالكفر لا ينتمي إلى عالم النقد بسبب، ولا إلى عالم الشريعة الحقّة أو المنطق، فإنما مهمة النقد الأدبي تقديم حكم فني جمالي، ولأنّ أمراً كهذا يتطلب قراءة النصّ بلغته الأم ليكون دقيقاً، سأكتفي بالقول إنّ قدرة الأفكار التي عالجتها الرباعيات على مواجهتنا بأسئلة تمتحن وعينا بذواتنا ومعتقداتنا، تعبر بوضوح عن عظمتها وعظمة الشاعر الذي أبدعها

. د. عدنان محمد أحمد

تصفح المزيد..
آخر الأخبار