الوحدة : 20-4-2022
الكتابة عالم مستمر يستولي على الكاتب في اليقظة والمنام والعرب الأولين كانوا يعتقدون أن جن وادي عبقر تتلبس رأس الشاعر تسيطر عليه لبعض الوقت تلهمه القصيدة وتختفي وما أن توحي إليه بقصيدة شعرية وتبدأ الأفكار تتسلل كالعناكب من الشقوق المظلمة لتنبثق القصيدة من مكامنها حتى تعود إلى مسكنها في الوادي… فكم يهون القلق والعذاب في مطاردة الأفكار المضنية…؟
عملية الإبداع والأجواء الحميمية المرافقة لها خاصة بالكاتب، فليست هناك لحظة محددة للكتابة ولحظة التيقظ تلمع مثل الشرارة في الظلام وأشبه بنيران الشهب الثاقبة في حالك الليل ،هي لحظة الانفتاح على الكتابة والسفر عبر الخيال وخلق كائنات وقصص وأحداث يمسك الكاتب بتلابيبها يعمل باستغراق في عالمه الافتراضي بطلق أفراس الخيال في الأماكن الخفية من الحياة والصور تتراكض في رأسه، كما تمرق الخواطر في البال كالساحر لا يكشف أدواته أبداً وجمال سحره كامن في غموضه وأسراره.
الطاقة الإلهامية المخبوءة في وعي الإنسان مرآة كاشفة لما يدور في عمقه الجواني والكتّاب يعيشون في عوالمهم السحرية الخاصة يؤمنون بأشياء ومواقف وشخصيات يتكهنون لها بنبوءات طيبة أو خبيثة ثم يتحقق ذلك فيما بعد فما هي المفاتيح السرية لفهم العلاقة بين الكتاب وربات إلهامهم وكيف يأتيهم الوحي…؟
غابرييل غارسيا ماركيز كانت زوجته ميرثيديس تضع يومياً أزهار صفراء على طاولته لأنه يؤمن إيماناً راسخاً أن هذه الأزهار تجلب له الحظ ومن مفارقات الكاتب الكولومبي الشهير الحائز على جائزة نوبل للآداب أنه كان يستهلك خمسمئة ورقة لكتابة قصة مكونة من اثنتي عشرة ورقة، والكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس (الضرير) وصاحب (التاريخ الكوني للعار) فتن بالشرق وبتراثه الجغرافي والأدبي، وكتاب ألف ليلة وليلة عالم الكنوز المخبوءة والسحر والذي يمثل عالماً من التناقضات الصارخة حيث الناس إما تعساء أو فقراء جداً أو سعداء أو أغنياء جداً، يرى أن منبع الإلهام هو الأحلام وأن الشعر هو نبش الأشياء المخبوءة والعثور عليها والتي تزوده ببدايات ونهايات القصائد والقصص ولذلك كان يغطس يومياً حين يستيقظ في وقت مبكر جداً من الصباح في حوض الاستحمام في منزله، ويستغرق في التأمل ليرى ما إذا كان الحلم الذي رآه في الليلة الفائتة سينفعه في كتابة قصيدة أو قصة ويمتدح العمى حيث يعيش العميان في عالم غير محدد وغير مستقر (العمى هبة، لم يكن العمى بالنسبة لي نحساً، للعمى منافعه، إنني أدين للظلام ببعض الهبات..
العصور القديمة قدمت هوميروس عن عمد كشاعر أعمى… لقد أتعبتكم بالهبات التي أغدقت علي) الكاتب البيروفي ماريوفارغاس يوسا كثير الانضباط والدقة في العمل يعيش من أجل الأدب من الصباح وحتى الليل ويفرض على حياته نظاماً صارماً يتيح له العمل بانتظام وثبات يستيقظ في وقت مبكر ويقرأ لمدة ساعة واحدة ثم يخرج للتنزه قليلاً ثم يقرأ عدة صحف يومية وينهي ذلك قبل الساعة التاسعة صباحاً ثم يجلس إلى طاولته ليكتب حتى منتصف النهار وعلى طاولته دمى متنوعة من أفراس النهر وبعد الظهر يذهب إلى المكتبات العامة لتبديل الجو حيث الهدوء والصمت يسودان هناك مما يحفز على الكتابة.
الروائي الإسباني ميغيل ديليس كان أبناؤه السبعة يقاطعونه بكثرة كلما جلس للكتابة ولكثرة شكواه من هذا الوضع وعدم قدرته على التركيز بحثت له زوجته وهو في أوج إبداع روايته (القديسون الأبرياء) عن شقة هادئة في الطابق التاسع عشر في أحد أبنية مدينته (بلد الوليد) بعيداً عن صخب الأطفال لكنه لم يستطع الكتابة هناك ورجع إلى العمل في بيته ولم يعد ضجيج الأطفال يزعجه بعدها، أما الروائية التشيلية إيزابيل الليندي من كتاب الواقعية السحرية الجديدة لا تفصل تجاربها الشخصية في الحب عن مكابدات شخصياتها وتؤكد أن المخيلة هي ما تعتمد عليه وليس الذاكرة وتشير في أكثر من مكان إلى حمى الحب الأول الذي أصابها باكراً: (الحب الأول مثل الحصبة لأنه كثيراً ما يخلّف آثاراً لا تمحى) وكيف تضيف توابل حسية من اختراعها إلى قصصها وشخصياتها وشحنها عاطفياً إلى الحدود القصوى.
نعمان إبراهيم حميشة