الوحدة:19-4-2022
بعد السنوات الست في دراسة الطب يختص طبيب التخدير في أربع سنوات لاحقة، يمارس اختصاصه بين غرف العمليات والعناية المركزة.
وكأي طبيب مهني يتملكه الحماس والرغبة الجامحة في اكتساب المهارات المختلفة لتطوير ذاته وتنمية معارفه وقدراته، إلى هنا لم تبدأ المشكلة فما أن يزاول المهنة، حتى يصطدم بواقع لم يكن يعيه جيداً.
وبالتدريج ينحصر دوره في غرفة العمليات بما لا يتناسب مع ما درسه من علوم ولا مع المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقه منذ لحظة مباشرة التخدير وحتى يصحو المريض المخدر من العملية.
الأسباب المهنية
تكمن المشكلة من الناحية المهنية بأن طبيب التخدير تحت وطأة سندان التقييد لجهة الاستشارة التي يبديها ما قبل العمل الجراحي ومخالفة التوصيات التي يوصي بضرورة أجرائها، ومطرقة الجراح بأجندته التي يجد نفسه مضطراً لتطبيقها حرفياً.
هذا ما يجعل دوره فاقد الاستقلالية على الرغم من حساسية ما يؤديه وضرورة وأهمية عمله، وسينعكس بالتالي على تطوره العلمي والمهني، ما يدعم ذلك شح الندوات والمؤتمرات والملتقيات الخاصة بالتخدير إذا ما قورنت بالاختصاصات الطبية الأخرى والمهنية عموماً، هنا يستفيق طبيب التخدير بأن هذا العمل المهم يؤدى في الظل، فهو ككومبارس يؤدي دوراً صامتاً في مشهد صاخب.. بأجر زهيد، وجهد لا يقل عن جهد المتممين للعملية الجراحية وبمسؤولية أكبر من البقية تقع على عاتقه.
تمضي به سنوات الخدمة فلا ينهيها إلا بشق الأنفس بتشكيلة من العلل الجسدية منها والنفسية، بخليط من الاستياء فلا يجد بديلاً عن السفر إلا الخروج من الخدمة والتقاعد المبكر.
الأسباب المادية
إن مستوى الأداء الجيد والسمعة الحسنة عموماً للطبيب السوري لم تمنع أن مهنة الطب في سورية بقيت مرتبطة بمفهوم “الحرفة الصغيرة” التي تعتمد على تقديم الخدمة الطبية في العيادة لقاء أجر مادي، وهو زهيد إذا ما قورن بأجور الأطباء في الدول المجاورة ومرتفع جداً بالنسبة للدخول الفردية في سورية، وبالتالي تحول الطبيب مضطراً للعمل بمنطق تجاري قوامه العيادة وباقي التجهيزات الطبية الباهظة الثمن.
وبات الربح الفردي جزءاً أساسياً من أهداف الطبيب لضمان استمرار عمله في عيادته، وما يليه من ضرائب وأجور، وبهذا الشكل يكون قد دخل سوق العرض والطلب ولوازمه من دعاية وتسويق وتنافس، وتلبية لحاجات السوق سيقوم بمهنته في كثير من الأحيان صارفاً النظر عما تلقاه من العلوم المعرفية أكاديمية المنشأ أم ذاتية البحث والمعرفة.
وبما أن دور أخصائي التخدير ثانوياً في العلاقة آنفة الذكر بين المريض والطبيب المعالج، ليس فقط لأن تخصصه لا يمارس ضمن إطار عيادة خاصة تأتي بمردودها المباشر عليه، بل أيضاً لأنه لا يتقاضى أتعابه الحقيقية جراء القيام بعمليات التخدير في المشافي بشكل عام وهذا يرفده التجهيل المتعمد أحياناً بدور طبيب التخدير وأهميته على مستوى نجاح العمل الجراحي في غرفة العمليات أو بإنقاذ حياة المرضى في وحدات العناية المركزة.
فالمريض يمكن أن يقصد طبيباً معالجاً لشهرته بعينه حتى لو كلفه ذلك سفراً لآلاف الكيلومترات وأسابيعاً وربما أشهراً من الانتظار، بالوقت الذي قد لا يعرف حتى اسم الطبيب الذي قام بتخديره أو الذي فطمه عن المنفسة.
لذا فإن أزمة اختصاص التخدير مرتبطة كذلك بضعف رواتب الأطباء في القطاع الحكومي، وبالأخص عدم إنضاج تجربة التأمين الصحي، وغياب علاقة مهنية متحضرة تربط المريض بطبيبه.
أمام ما تم عرضه آنفاً فإن تخصص التخدير والعناية المركزة سيتلاشى وربما سينقرض تدريجياً في بلادنا طالما أن العلاقة بين المريض والطبيب تنشأ في العيادات الخاصة، وتقوم بمعظمها على المبدأ الشخصي والمصلحة النفعية البحتة، وتنتهي بالمشافي الخاصة التي هي شكل آخر لهذه المصالح يتعرض فيه طبيب التخدير للظلم ويغيب دوره وحقه، فطبيب التخدير محتاج للعمل بالشرط اللازم لاستمراره وهو ولاؤه التام وانصياعه لأرباب نعمته، ويتناسب أجره طرداً مع الطاعة والولاء وربما يخسر عمله عند أول مخالفة إدارية.
حقيقة بتنا نقترب من إعلان سورية خالية من أطباء التخدير كما حصل في العراق وقبل أن يهاجر أطباؤنا ويملؤوا الشواغر هناك مقابل حفنة من الدولارات، وينسحب الموقف العراقي ليطبق في سورية بالسماح للمساعدين بتخدير المرضى لوحدهم مع تحمل مسؤولية الاختلاطات التخديرية، أو استقدام أطباء تخدير من خارج البلاد ولكن بشروطهم وبأجورهم التي يختارونها.
نعم، نحن بحاجة لقانون يحتضن أطباء التخدير السوريين وينصفهم وينهض الضمير بزملائهم وبمرؤوسيهم.
وإلا نحن أمام كارثة طبية خطيرة وقد بدأنا نرى آثارها بشكل مباشر.
علي الشيباني