الوحدة : 7-10-2021
في دراسة عن حكايا المجد التي بدأت من تشرين وبطولاته الرائعة بعنوان (شعر الطفولة في تشرين) للأديب الكبير محمد قرانيا يوجز فيها التغيرات والانعطافات الواضحة التي طرأت على الأدب بشكل عام وعلى الشعر الموجه للأطفال بشكل خاص ، نقرأ مادة غنية قدمت للقارئ هذه الخصوصية من التفاؤل بالمستقبل والخروج من واقع الاستكانة لمجموعة من الهزائم التي شهدتها الساحة العربية بعد سنوات النكبة والنكسة وما تلاها من آثار انعكست بنتائجها على جميع مناحي الحياة في الوطن العربي.
في البداية قدم الأديب محمد قرانيا لمحة عن تشاركية القلم والسلاح وتلاحمهما في المعركة المصيرية قائلاً: لقد انتعش الأدب عموماً، أدبُ الراشدين، وأدبُ الناشئة والصغار في القصة والشعر، وأخذ كلٌ منهما موقعه على الساحة الثقافية، وشارك الأديب، من موقعه بكلماته المقاتلة، الجندي الذي يقاتل في خندقه، وشارك الاثنان معاً في صياغة الروح الجديدة للمجتمع العربي المعاصر.
فقد وقف كاتب الأطفال دائماً إلى جانب القيم الإنسانية التي كان يطرحها في كتاباته، وعمد إلى تأجيج المشاعر العاطفية القومية في نفوس الصغار، وهو، وإن كان قبل الحرب يكتبُ عن الوطن الذي تزين سماءه الزرقاءَ، عصافيرُ مغرّدةٌ، وغيومٌ ملّونةٌ، فإنه بعد الحرب، انتقل للتعبير عن الوطن القوي، والعروبةِ التي بدأت تنفض عن كاهلها غبارَ الهزيمة، وتشيرُ الدراسات النقدية التي رصدت أدب الأطفال الذي دار حول تشرين، إلى أن مجموعة القيم الوطنية والاجتماعية والقومية، التي كانت تحتل المرتبة الثانية في سلم القيم قبل الحرب، قد استطاعت أن تزيح القيم المعرفية الثقافية، وتتربع فوق القمة عوضاً عنها، فتحتل، بعد الحرب، المرتبةَ الأولى في سلم القيم السائدة في أدب الأطفال.
فما إن أطلّت شمسُ تشرينَ على الشاعر حتى انقشعت الغمامة السوداء وحلّت محلها روح التفاؤل، فتفتّحَ الوردُ، وغنّت العصافير، وابتدأ الأطفال ينشدون متباهين بانتصارات تشرين:
مثلما تأتي الفصول .. مثلما تجري السيول
مثل العاصفة الخضراء تأتي .. هكذا تشرين يأتي
ورأى الأديب أن المتتبع لأدب حرب تشرين يمكن أن يقف عند لونين من الشعر، اللون الأول: يتمثل في الشعر الذي قيل أثناء اندلاع المعارك، إذْ نلمسُ شدةَ انفعال الشاعر، وتأثره الآنيّ بالحدث، لأن من أشرف المواقف للأديب أن تقف الكلمة والبندقية معاً في خندقٍ واحدٍ، ليغدو الناتج الأدبي شاهداً حيّاً على إثبات مرحلةٍ بالقصائد والخواطرُ التي انطلقت عفوياً على ألسنة الشعراء الكتّاب، وأودعوها المشاعر والأحاسيس:
وتعلو البيارقُ فوقَ البنادق
وهذي الخنادقُ تحكي العبورْ
تُضيء سمانا وتحمي حمانا
واللونُ الثاني: لونٌ هادئٌ، أبدعه الشعراء بعد أن وضعت الحرب أوزارها، اتسم بسماتٍ فنيةٍ فيها روعة الواقعية، وشفافية الحداثة التي استمدّت نسغها من الأصالة، والتراث، فغذّتِ الخيال بصورٍ حيةٍ مما اختزنته الذاكرة، وعاينته الأبصار، فجلسَ الأديبُ إلى أوراقهِ يكتب بهدوء ورويةٍ، فكانت القصصُ والقصائدُ الجديدةُ، وسائلَ الاتصالِ الواعي التي عملت على إثراء الوجدانِ العربي والعالمي بقصصِ البطولةِ، وقصائدِ الحبِ للأرضِ والمقاتلين الذين غدوا حقيقةً ناصعةً في تاريخنا المعاصر، وانطلق الأطفال يمجّدون البطولةَ ويُعْلون شأن الشهادة وهم يردّدون شعر سليمان العيسى:
يا وردة تشرين بجناحك ضميني
أصبحتِ رفيقتنا وملأتِ حديقتنا
وغداً نحن الأطفال نتدفق كالشلال
علمُ التحرير بأيدينا وبأعيننا الآمال.
لقد كانت فرحةُ النصر تزغردُ على وجوه الصغار، وتنطلقُ على ألسنتهم بوعيٍ، وبغيرِ وعيٍ، وما أجمل أن يتحوّل العالم في أنظارهم من جديد إلى عصافير وبساتين حبٍ وألوانٍ وفراشاتٍ وحمائم وأعشاش آمنة:
في الغوطةِ الغناء قرب العاصمة
تشرين قال ضاحكاً .. وداعبَ العصفوره
والآن ياحبيبتي الصغيرة .. طيري وَعَلّي آمنة.وحدد الأديب في نهاية دراسته ملامح الأدب الذي سطر بطولات حرب تشرين وأمجادها العظيمة بقوله: لقد أنتجت حرب تشرين أدباً مغايراً لما كان سائداً ، أنتجت أدباً رافقَ الحدثَ، و تَذَوّقَ طعم النصر، ووقفَ على معانيه وأبعاده القريبة والبعيدة، فكانت له خصوصيتُه وسماتُه، إنه أدبُ فرحٍ وحب واحتضانِ الوطن ، أدبُ رؤيةٍ مستقبلية، تُعدّ الأطفال ليكونوا عدَّةَ المستقبل، وتغذّي الروحَ والعقلَ بالقيم الوطنية والقومية.
فدوى مقوص