الصورة الأدبية… بين الواقع والتّصوّر

الوحدة: 21-9-2021

الصورة الأدبية زاوية ضيقة نجد الوجود من خلالها, والواقع منجم للصور لا يشيخ، والإنسان يمكنه الرؤية في بعدين في وقت واحد (واقعي – ومتخيل) ويحيا في عوالم افتراضية كأنما لديه أكثر من عين يبصر خلالها, وكلما اتسعت دائرة الرؤية برزت الأعماق المعتمة المحجوبة خلف وجه الصورة المغطى.. فكيف للأديب أن يصور الحياة إذا لم يدس بقدمية الحافيتين على أحجارها القاسية ونتوءاتها الصلدة برجليه أو بسيقان خياله، المبدع عيناه مفتوحتان تصولان في كل الاتجاهات، يقتنص اللحظات الخاطفة والصور المفاجأة، وينسل خفية إلى الزوايا والشقوق والتصدعات، يرصد السكون والحركة داخلها..؟!
الصورة انعكاس للواقع بأبيضه وأسوده ورماديه وعكس الجوانب المظلمة من حياة الناس وتصوير دقائق حياتهم وما يدور في رؤوسهم وتحت جلودهم والآهات المتفجرة من الأعماق ووضع الحقائق عارية تحت الضوء كي يراها جميع الناس, وهي فعل تلصص, تارة يتلصص الأديب على مكبوتاته وتارة على مكبوتات الآخرين وتفجير الصور لتخرج من مكامنها وأوكارها واقتناص الصور في زاوية معتمة لتصوير الحياة بحلوها ومرها وإنطاق الصامت وكشف المستتر والخبيء بالاتكاء على المنطق واستنطاق الأشياء الجامدة وتحويلها إلى عناصر متحركة وكأنه نفخت الروح فيها في رحلة البحث والخروج عن المألوف ونبش كل شيء مهمل في الحياة , يقتحم الحياة بمختلف تشعبات دروبها والانصهار بتراب تفاصيلها.
الصورة والأصداء الغامضة المرافقة هي الشرفة التي يطل منها القارئ على المشهد برمته, والنص الخالي من الصور المدهشة أشبه بكلام عادي يمكن لأي فرد أن ينطقه, والصورة الشهية سافرة الوجه لانقاب لها بداية الصفحة لا حجاب دونها ترتبك بحساسية الأديب وذائقته والتقاطاته المميزة حين يرمح خياله كفرس جموح ويحلق في المقامات المهجورة البعيد عن أعين الناس وهو يصور ما يدركه العقل بدلاً من الاقتصار على ما تراه العين.
الخيال وما يجول فيه من وقدة الحس وقوة الإدراك قوة تأملية ونشاط ذهني فريد مصدره خصب الشعور وغنى الوجدان وترحال بسرعات عالية خارج المحسوس والملموس وفعل يمنح الخصوبة للحياة , وهو الابن الشرعي للعقل والمكان الوحيد الذي يستطيع فيه المرء الحياة بحرية مطلقة كاملة إلى درجة التماهي وحتى الذوبان بين الواقع والمتخيل ويرتبط بمهارة الالتقاط والاصطياد والقبض على ما يخفى على أغلب الناس الآخرين.
الأديب الناجح تزور الشمس عقله من جميع الجهات, صاحب مخيلة مفتوحة على سديم شاسع وفضاء محير وممالك من الصور والتصورات في أبهى قوامها وترفها, لا يرضى بالتجول في الجانب المكشوف من العالم المضاء بل يعمل باستغراق في عالمه الخيالي الافتراضي ببطء, وهدوء وتركيز وعيون مفتوحة يشاهد صوراً وشخصيات وأحداث وتصورات وتنبؤات من خلال النافذة العلوية التي وهبه الله إياها وتحويل الصورة إلى صوت وحركة وبعث الروح فيها.
ربما أخطأ البصير قصده وأصاب الضرير رشداً, الأديب الفاشل تنطبع الصورة المقلوبة للمعايير في ذهنه يعيش أسير رؤيته الضيقة التي تقع تحت بند الخيالات السقيمة والتصورات الرويئة يضيع في متاهات الأفكار الرمادية التي تغزو رأسه ويصطلي في حرائق عقله وعذابات وحمها وحملها وطلقها , يقول كلاماً يذوب في الهواء وينتشر في الفضاء كمن يبحث عن ظله في يوم غائم ماطر.

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار