الوحدة 10-9-2021
شغلت الإذاعة في مرحلةٍ زمنيّة سابقة الناس على اختلاف شرائحهم، لافتقادهم الوسائل الأخرى لملء الفراغ والتسلية والإفادة والترويح عن النفس، علماً أنها تواكبت في تلك المرحلة مع التلفاز الذي شغلهم أيضاً، إلا أنه بقيَ للإذاعة حضورها الأكبر والأكثر دواماً واستمراريّة خلال الليل والنهار، نظراً لكون التلفاز في ذلك الحين لا يعلن افتتاحه إلا في ساعة محدَّدة من الوقت المسائي.
وقد كان لنا مع أ.د. ريم هلال هذا الحوار بشأن الإذاعة تحديداً:
حول موقع الإذاعة في بداياتها قالت:
اتَّخذَت الإذاعة عبرَ مراحل حياتي بأكملها موقعاً خاصّاً، بفعل كونها جهازاً سمعيّاً يعتمد حاسّة السمع دون حاسّة البصر المفقودة. كما أنها اتَّخذَت موقعها الخاصّ في تجربتي مع الإبداع؛ فمنذ مطلع صِباي والمذياع يرافقني، تواكُباً مع موهبة الغناء التي كادت تَؤولُ بي إلى الاحتراف، فأنصِتُ عبر الأثير إلى أغنيات المطربين والمطربات الكثيرة، أحفظها، أُرَدّدُها معهم، أتابع البرامج الفنّيّة والحوارات مع الفنّانين، مطربين وملحّنين وعازفين.
وحول موقع الإذاعة في المرحلة التالية من حياتها قالت:
وحين تحوَّلَ مسار طريقي عن الغناء إلى عالم الأدب الذي دخلتُه منذ دخولي الجامعة؛ كان بدهيّاً أن يتحوَّلَ مسار طريقي مع الإذاعة كذلك، فاتَّجهتُ إلى البرامج الأدبيّة والثقافيّة بعامّةٍ، والحوارات مع الأدباء والمثقّفين، والندوات التي تنبث من مكان إقامتها عبر الأثير، متنقّلةً بذلك من محطّةٍ إلى محطّة بحسب ما يوجد لدى هذه وتلك.
وحول أكثر المحطّات الإذاعيّة التي كانت تُؤْثِرُها على سواها قالت:
أخصُّ بالذكر هنا إذاعة دمشق التي كانت تبثُّ عشرات البرامج الثقافيّة في مرحلةٍ ما، ثم انحسرت بكلّ أسف تلبيةً لرغبات المستمعين الذين يميلون إلى مناحي التسلية واللهو.
وحول أهم البرامج الثقافيّة والأدبيّة التي كانت تتابعها في إذاعة دمشق قالت:
إنَّ إذاعة دمشق كانت في تلك المرحلة البعيدة تبثُّ حتى مناقشات الرسائل الجامعيّة من خلال برنامج رسائل جامعيّة، وكذلك برنامج كاتب وموقف الذي كان يختص ببثّ ندوات يقيمها في المراكز الثقافيّة الإعلاميّ عبد الرحمن الحلبي، وبرنامج في زورق الليل الذي كان يقدّمه الإعلاميّ طالب يعقوب، مُسائلاً من يحاوره عن الكتاب الذي استوقفه في قراءاته، وعن المكان الأجمل الذي حَطَّ فيه يوماً وبقيَ في ذاكرته، وعن الأغنية التي كان لها وقعها في نفسه ولايزال. ثم هناك برنامج عالم الأدب الذي كان يقدّمه الشاعر خالد أبو خالد، متنقّلاً فيه ما بين واحدٍ وآخر من ألوان هذا العالم اللامتناهية.
وحول محطّةٍ إذاعيّةٍ أخرى كانت تتابعها قالت:
إنها إذاعة البرنامج الثقافيّ من القاهرة، هذه التي يعود تاريخها إلى الخمسينيّات من القرن الماضي تحت اسم إذاعة البرنامج الثاني من القاهرة. إنها في رأيي أعظم إذاعة عربيّة، لكونها تختصّ تحديداً وبلا أيّ منازع بالبرامج الثقافيّة، البرامج الثقافيّة دون سواها ولعدّة ساعات في اليوم، مترجّحةً ما بين الأجناس الثقافيّة والأدبيّة كافّةً، وما يتفرّع من كلّ جنسٍ من جزئيّات. لكن هذه الإذاعة مع قوَّةِ شأنها كم كانت ضعيفة البثّ عبر أثيرها، وقد التقيتُ ذات يوم مديرها الشاعر إبراهيم أبو سنّة وحدّثته بهذا الأمر فأخبرَني بعد فرحِه العارم بثَنائي عليها أنها ستنبثّ فضائيّاً بعد أيّام. وما كادت تمرُّ بضعة أعوام على البثّ الفضائيّ الذي أراحَني بوضوحه وعدم تراوحه ما بين ضعفٍ وضعفٍ أكبر؛ حتى رأيتُه ينقطع نهائيّاً عقب أحداث طرأت على مصر، فخسرتُ بذلك آسفةً البثَّين الفضائيّ والإذاعيّ معاً.
وحول علاقتها الحاليّة بالإذاعة قالت:
مع زحف هذا العصر الجديد، أخذت الإذاعة أشكالاً أخرى، فضعفَ أو اختفى البثُّ الإذاعيّ لكثير من محطّاتها، وتمَّ التحوُّل إلى البثّ الفضائيّ عن طريق الأجهزة الحديثة، هذه التي لا يمكن أن تُغْني بتكنولوجيّتها المثلَّجة عن دفء المذاييع وحميميّتها. حقّاً كم أشتاق إلى أن آخذ المذياع ثانيةً بيدي، أقلّب محطّاته بذلك اليسر، أسمعها بذلك الوضوح الذي لا ضعف ولا تشويش فيه، أتنقّل وأنا في هذه الحال إلى أيّ مكان أشاء، لكن يبدو أنه هيهات، هيهات أن تتراجع عن حياتنا الحداثة التي لا أراها ولا يراها الآخرون صائبةً في كلّ شيء تطرقه، أو في كلّ درجةٍ ترتقيها.
د. رفيف هلال