ولقطاف الجوز ألف حكاية تروى…)

الوحدة : 4-9-2021

عندما أصرت والدتي على تسميتي أيلول لم تجد شخصاً واحداً يبارك خطوتها… فما بين جدّةٍ راغبةٍ بإحياء اسم الجدّ الراحل، إلى عمّةٍ جمعت من المعلومات الكثير لتؤكد أنّ أيلول اسمٌ مؤنث لا يليق بصبي، إلى بعض مدعي التّنوّر من شيوخ العائلة المحدثين، الذين ساقوا من الأحاديث الكثير أو ربما اخترعوا أن الاسم مكروهٌ في الإسلام.
لكن أمي بما فيها من جلادة وصبر، أدارت ظهرها لتلك الغوغاء كلها، وتشبثت برأيها… فكنتُ أيلولاً، أطلقتُ صرختي الأولى في عيد الجوزة المصادف في الثامن والعشرين من آب، موعد بدء موسم قطاف الجوز في قريتنا، ثالث أهم المواسم فيها بعد الزيتون والكرمة.
لم يملك أبي القدرة على مخالفة قرار أمي بأنوثتها الطاغية التي تعيده طفلاً يمسك بطرف ثوبها يشتم رائحتها التي تشعره بالأمان…
وكيف يفعل ذلك ابن عفرين القروي المتيم بالعاشقة التي اجتثها من جذورها الساحلية في أثناء تأديته للخدمة الإلزامية، وعاد بها إلى البيت الكبير لتحصد من نساء العائلة مواسم الحقد والحسد، وقد استولت على قلب الرجل القوي، الشهم والضخم الذي انتظرته كثيرات، فجاءت امرأة ناعمة قصيرة لتغير نظاماً أشبه بحرملك العثمانيين كان من المحظور التجرّؤ عليه.
لم تحظ بدعمٍ أو محبةٍ إلا من جدتي أم غاصب… ولكنه كان في الخفاء، تحاول جدتي ألا تقلل من هيبتها وسيطرتها على بناتها وكنّاتها، لذا كانت الموجهة الحقيقية الخفية لأمي، وكأنما أرادت أن تورثها السلطة من بعدها.
لم أعرف أبداً السر الذي جمع الامرأتين مهما حاولت الاستراق إلى المحادثات السرية في أثناء جني المحاصيل، التي كان قطاف الجوز أجملها…
كنت أتسابق مع أولاد عمومتي لنشر المفاريط تحت الأشجار، والاستيلاء على العصي الكبيرة لضرب الأشجار والفوز بأكبر كمية من الجوز.
ما زلت أسمع صوت أحمد، أستاذ المدرسة، وهو ينهرنا عن فعل ذلك بقساوة قائلاً: الشجرة روح … والروح لا تعطيك إن لم ترفق بها، فإن كسرتها خسرت عطاءها.
ويبتسم لأمي ابتسامة خجولة ظلّت تحيرني لسنوات، كما ظل الأستاذ أحمد الرجل الوحيد الذي يحنو علي ويعاملني برفقٍ بعد وفاة والدي.
ظلت حادثة وفاة أبي تروى في كل موسم قطاف، وتبكي النسوة والرجال غاصباً الذي لم تقتله حرب ولا مرض ولا اجتماع عدد من قطاع الطريق وتكاثرهم عليه في ليلة شتوية مظلمةٍ، ولكنها شجرة جوز قديمة ألقت به من علو، لتأتيه ضربة قاضية على رأسه، يتمني وتشرد طفولتي على مواسم الاخضرار والحزن.
لقد أحببت والدتي بجنون وتعلقت بها، أشعرتني أني رجلها الصغير، لكن والدي كان شيئاً مختلفاً لا يمكنني الحديث عنه من دون أن تختنق كلماتي وذاكرتي بالدموع والقهر، فأود لو أتمثل بعضاً من معاني اسمي الصراخ والنداء، لأسترد حضوره من بين يدي الزمن، لكني أتذكر أن الصبر والجلادة من معاني أيلول أيضاً فأستغفر ربي وأصبر على حكمه.
لم تكن والدتي لتعود إلى الساحل، فعلاقتها انقطعت بأهلها مذ هربت مع والدي، وبقاؤها أرملة وحيدة عرضها للكثير بعدما خافت زوجات أعمامي من أن يفكر أحدهم في الستر على عائلة أخيهم بالزواج من أمي وتربيتي، فاضطرت جدتي لإعلان حمايتها لنا بعدما أغلقت الأبواب جميعها أمامنا، لأعلم لاحقاً أن جدتي كانت هي الأخرى عاشقة هاربة مع جدي العسكري من ريف حمص البعيد.. لذا بدت عارفة لكل تفاصيل معاناتنا فضمتنا بحنانها على الملأ.

وجدت في ظهور أستاذ أحمد في حياتي تعويضاً عن غياب أبي، كان يعلمني دروس الحياة والمدرسة وأصول القطاف… كنت أحكي له أفراحي الطفولية وأوجاعي.
أخبرني ذات مرة أنّ أمي لن تسمح لأحد بإيذائي، قال إنها امرأة قوية، ضحكت وقلت: قد تبدو كذلك… إنها منكسرة بلا أهل ولا رجل، مع يافع تحمل همّ إيصاله إلى بر الأمان.
وهكذا مضت سنواتي وأنا لا أشعر بهويتي في عفرين، ولا أعلم إن كنت سأجدها يوماً في الساحل …
لكن ظلّ ذلك حلمي، سأعود يوماً إلى نصفي الغائب في أعماق البحر.
عدت اليوم يحملني الفرح وقد شعرت أني لم أخذل أمي، نعم لقد كنت رجلها الحقيقي، وكيف لا وأنا أحقق درجةً شبه تامة في شهادة الثانوية العامة، وهو أمر لم يصل إليه أحد في عائلتنا.
وقفت أمي وقفة عز لم تقفها يوماً السلطانة حفصة أم السلطان سليمان، وأطلقت زغاريد الفرح بالنصر على كل من تطاول عليها.
لم يكن هنالك من يشارك أمي فرحتها بصدق، في ساحة الدار المكتظة بالمهنئين والمجاملين المغتاظين سوى جدتي وعمتي والأستاذ أحمد الذي لم أتفاجأ أبداً برقصه وغنائه.. فلو أنه تزوج ما كان ليفرح لولده أكثر مما فعل.
طالت ليلتنا بعد رحيل الضيوف، وساعدت الغالية في ترتيب الساحة وتنظيفها، وجلسنا نشرب الشاي ونتأمل السماء التي استجابت لدعواتنا…. احتضتني أمي وقالت: لقد أكملت رسالتي… لا شيء سيقف في طريقك بعد الآن، الدراسة سلاحك في هذا الزمان والمفتاح الذي ستلج به أبواب العظمة.
وجدت في كلامها تشجيعاً مناسباً لأفتح الموضوع معها، فقلت: أمي.. وها أنت قلتها… لقد أصبحت عفرين ضيقة وأحلامي ممتدة خارجها.
أكدت أمي كلامي وتابعت:
جامعة حلب عريقة يا ولدي، تخرّج منها كبار العلماء…. ستتخرج منها إلى العالم، وسأظل هنا، لأهتم بالأرزاق وأرفدك بالمال لتحقيق طموحاتك.
قاطعتها بحذر: لكني أرغب في أن أتابع دراستي في جامعة تشرين يا أمي!
دارت الدنيا من حول المرأة الشابة وهوت بها في أعماقٍ سحيقة، استجمعت قواها وسألتني: وما الذي يأخذك إلى هناك، ليس لديك تاريخ أو ذكريات لتبحث عنها… فلم ستعود لتنبش قبور الموتى.
توقعت أن تفرح بولائي الخفي لبلدها الأصلي، وأن تكون مشتاقة لأهلها وتنتظر أن يكبر رجلها ليعود بها إلى هناك، لكنها بدت في حالة مخالفة ومستنكرة لذلك، نهضت من جواري واحتدّت صارخةً: لا خبز لنا في الساحل، أرزاقنا وحياتنا هنا….
أمسكتها برجاء طفل ألوذ بثوبها وأرجوها: أخبريني ماذا حدث هناك… لم تهربين من السؤال؟!
أنا لا أحب الحياة هنا، أريد الإبحار خارج حدود زمانها ومكانها.
– فلتفعل إذاً… الحياة أمامك، أمّا أنا لا يمكنني فعل ذلك.
— ماذا تقولين..
– لا يمكنني تركك وحدك، أيعقل أن أتخلى عنك بعدما تحملت الشقاء وتخليت عن شبابك لأجلي؟!
— لقد أديت رسالتي وسلمتك مفاتيح المستقبل وسأظل أفعل، لكني لن أسمح لك أن تعيدني لذكريات ظللت العمر أهرب منها.
– لست أول امرأة تتزوج من دون موافقة أهلها، لقد مضت ثمانية عشر عاماً، كيف لم تحاولي التواصل مع أهلك وطلب مغفرتهم.. لِمَ لم يبادر أحد بالسؤال عنك؟!
ثمة قضايا عالقة ومبهمة ،لِم لا تكونين صريحة ً معي.
انفلتت أمي بقوة من يدي التي تقلصت وهي تحاول الإمساك بها برجاء، وتركتني أبكي حيرتي في ليلة يفترض أن تكون الأجمل في سنوات عمري.
مضى وقت لابأس به قبل أن يعيدني صوت الأستاذ أحمد إلى واقعي، ارتميت في حضنه وأجهشت بالبكاء، شعرت أن والدي نهض من قبره وأتى ليداويني.
-لا تظلم أمك يا حامد… ليست المسؤولة عما هي فيه.
— أنا لا ألومها ولكني أحتاج لإجابات واضحة عن أسئلتي…. هل اتصلت بك لتأتي الآن؟!
– ذنب أمك الوحيد أنها أحبت جندياً شاباً لم يكن سيد قرار نفسه، تركها تواجه مصيرها وحدها وتتحمل مسؤولية طفل في بداية شبابها.
— لا يا أستاذ… كلامك غير صحيح… أبي تحدى العالم لأجلها وتزوجها ولم يغضبها يوماً، مازلت أذكر كيف كان ينظر إليها كآية من آيات الله بخشوع ٍ وحبّ، فإن قصدت موته ورحيله المفاجئ فذلك أمرٌ من رب العالمين وقضاء لا يمكن رده.
— أنا لا أتحدث عن غاصب… بل عن الشخص الذي وقعت أمك في غرامه، وأخبرت أهلها فرفضوا ارتباطها به، وحرموها أن تنهي دراستها لأجله… فظلت تلقاه في السر حتى أنهى خدمته العسكرية، وأخبرته أنها مستعدة للهرب معه إلى مدينته أو إلى أي مكان في العالم، فوعدها أن يحضر أهله لخطبتها مع وجهاء، لأنه لا يمكن أن يقدم على خطوة هامة من دون مباركتهم … جرحها بكلامه، ظنته سيتمسك بها ويواجه الدنيا ليكونا معاً، لكنها وعدته أن تنتظره.
وطال انتظارها لحبيبها الذي رفض أهله طلبه وهددوه إن أقدم على ذلك، فهرب للعمل في بلد آخر من دون أن يكلف نفسه عناء لقائها ومواجهتها بالحقيقة المرة.
لتكتشف بعد حين أنها واقعةٌ وحدها في ورطة كبيرة، لقد كانت أمك حامل بك … ووالد الطفل جبان هارب، فلجأت إلى صديقه وابن مدينته أبيك غاصب، الذي كان شهماً قوياً مثل العادة فتقدم لخطبة أمك وعندما رفض أهلها، أخذها إلى عفرين وتزوجها ليستر عليها.
– ماذا تقول يا أستاذ… غاصب ليس أبي.. مستحيل…. أنا ابن حرام؟!
— لم يلمس غاصب أمك يوماً، بل ضحى بحب حياته ابنة عمته في سبيلكما، وحصد نقمة الجميع من أجلها، وأحبكما من كل قلبه.
– والندل الذي كان سبباً في ولادتي… ألا يعرف أن لديه ابناً في هذا العالم اسمه حامد؟
— لقد عاد والدك بعد سنوات، وصدم بخير زواجهما، واعتبرها خيانة من حبيبته وصديقه، وعندما واجهها بذلك، أعلمته بما كان … وقالت له إن غاصب وعدها بأن يطلقها إن كانت ماتزال تحبه ليقوم برعاية ولده، لكنها رفضت ذلك، لأن لا أب لولدها غير الأب الذي كان حاضراً لأجلهما دائماً.
– ومن هو أبي؟!
— لا أحد يستحق تلك الكلمة سوى غاصب، حين ذهبت للقائه في كرم الجوز، كان يبكي في أعلى الشجرة، وأخبرني أنه كان يخشى يوماً مماثلاً… لقد أحبكما معاً، وكنتما عائلته التي يضحي بروحه لأجلها، لكنه لن يكون أنانياً ولن يحرمكما مني أنا الوالد الأحمق والحبيب الجبان، فطلّق أمك أمامي ثلاث مرات، وسقط صريعاً بعد أن أصابته ذبحة صدرية أودت بعالمنا جميعاً.
– أنت والدي…. أستاذ أحمد…. لا يمكن ذلك… مستحيل… أنت أنبل من أن تكون مسؤولاً عن كل مصائبنا في الحياة.
— أجل أنا والدك الذي حرم أمك من كل فرص العيش الكريم، فنذرت أن أحيا عمري في خدمتكما، ولم أكن أنوي أن أبوح بهذا السر لأحد لولا اتصال أمك وإعلامي بما كان بينكما.
– لا يمكن ذلك…عقلي لا يستوعب كل هذا.
— إنها الحقيقة يا حامد فلا تظلم أمك، وتابع مسيرتك لتعوضها عما لحق بها، أما بالنسبة لي لن أطلب منك غفراناً لا أستحقه، بل سأظل أسعى لأكفّر عن ذنوبي الكثيرة.
نظرت إلى من كان قدوتي في الحياة إلى ما قبل قليل فرأيته يتقزم ويتقزم… رفعت نظري إلى السماء كان وجه أبي غاصب يضيء سمائي محاولاً زرع الطمأنينة في نفسي لأهدأ قليلاً وأمنحها فرصة إعادة تأهيل ذاتها مع المعطيات الجديدة.
تركت الدار وخرجت باتجاه مركز انطلاق الحافلات، غفوت لساعات حالماً بوجه أمي الشقية، ولم أصح إلا على مشارف الجبال الساحلية التي جئتها باحثاً عن نصفي الغائب من عالمي، وكلي أمل أن الزمان سيكون كفيلاً بترميم جروح الجميع.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار