الوحدة : 13-8-2021
خلال المشوار الرياضي بفترة المغيب تقريباً، كان لزاماً عليّ أن أقوم بتغيير تلك الطريق التي أسلكها يومياً والتي حفظت كامل تفاصيلها الطبيعية وحتى روّادها الذين يمارسون نفس الرياضة تفادياً للملل، فقد عملت على جعل المسافة أطول بكثير كاختبار جهد، وعند العودة عبر الطريق الجانبي الآخر تأمّلت المسافة التي قطعتها وأحسست أنها مقبولة بالنسبة لي، وبالتالي تحرّك لدي شعور (التنبلة) الذي أمتلكه عند تلك النسمة العليلة التي لفحت سخونة الدهون التي يمتلكها جلدي، فكانت الحديقة التي تسكن جانب ذلك الرصيف مقصدي، هي حديقة صغيرة نسبياً، تذكّرت أن العام المنصرم شاركت بعملية تشجير بعض المساحات الفارغة فيها مع مديريتي البيئة والزراعة، وحاولت استكشاف ما تمت زراعته، وهنا وجدت أن ذلك المكان قد تم دحله وتصحّره وتسويته بباقي تضاريس الحديقة وهذا ما كنت أتوقّعه نظراً لكثافة الوجود البشري فيها وخاصة من القوى الصغيرة الجبّارة التي من الصّعب التحكّم بتصرفاتها.
وعند جلوسي على أحد مقاعدها الخضراء (السليمة) بدأ الدرس المجاني (المؤلم) من قِبل أحد الزوّار الهاربين من بطش الإرهاب، مستأذناً الجلوس فتنحيت قليلاً محترِماً طلبه للجلوس بجانبي، حاول عدة مرات البحث عن طريقة للدخول معي بحديث لم أكن جاهزاً له، ومن خلال بعض الجُمل التي لفظها تأكدت أنه من سكان محافظة إدلب الجريحة، فربّت على كتفي وقال ما شاء الله على هذه الجنينة كأنها قطعة من الجنة، لكن لو كنت أنا صاحب قرار بهذه المنشآت لقمت ببتر كل هذه الأشجار عديمة النفع وزرعت بدلاً منها أنواع مميزة من أشجار الزيتون، التفت خلفه قليلاً وقال انظر خلفك لتلك الشجيرات، لاحظ الحمولة التي تكتنزها تلك الأشجار الصغيرة، وأردف قائلاً: بلكنته الأدلبية، (أشو بيمنع كل الحدائق تكون زيتون)، وعند القطاف تقوم البلدية المعنية بالحدائق بتضمين موسم الزيتون وتلك البساتين المتعدّدة لمن يريد، ثم نظر إلي مطبطباً على المقعد قائلاً: هل تعلم أن أشجار الزيتون تُحب الونس، تُحس وتتعامل مع الوجود البشري بجانبها، إضافة إلى الحركة التي تداعب جذورها تحت التربة فتنعشها، لاحظ أن جميع الأشجار المتواجدة في هذه المدينة وعلى الأرصفة الأخرى بالشوارع تمتلك محصولاً جيّداً من الزيتون بالمقارنة مع الحقول البعيدة قليل الحمولة، وهنا قمتُ بمقاطعته لأثبت له أن مناطقنا الساحلية والجبلية تتعرّض للمعاومة السنوية نتيجة لأسباب عديدة أهمها الرطوبة العالية والصنف والعمر ونقص العناصر المعدنية خصوصاً عند الإزهار، فقاطعني قائلاً أنتم لا تعتنون بالأشجار فهي بحاجة التقليم دائماً والتواجد بجانبها وتسميدها باليوريا ورشّها لإبعاد الفطريات والحشرات، أنتم تريدون زيت وزيتون بدون تعب، هنا حاولت إنهاء الحديث ممازحاً، وقلت له (ولا يهمك يا عم، رح نعمل للزيتونات جو طرب وحفلات موسيقية كل يوم تحت زيتونة، بلكي بيصيروا يحملوا ورح نساوي أعراس خلّبية ونجبلن علي الديك والداعور وراغب علامة)، هنا انتفض من جانبي منسحباً باتجاه باب الحديقة رافعاً جلابيته لتوسيع خطوته مطلقاً بعض الكلام العام سمعت منه جملة قصيرة (شعب عايش عالمسخرة، شو ما صار فيكو قليل) فشعرت بأني قد أصبت به شيئاً مؤثراً وهو لم يُقْدِم على هذا إلا لأنه صاحب تجرُبة عظيمة بزراعة الزيتون، فأيقنت أن شأنه شأن الكبار من فلاحي مناطقنا، لديهم رؤيتهم ونظرتهم الثاقبة تجاه الأرض ومزروعاتها التي أصبحت جزءاً من كيانهم، كما أن وصفه بأن الفلاح وأشجاره يتبادلان المشاعر، هذه وقعت على مسمعي منذ أزمنة طويلة، وهنا انتابني شعور بتأنيب الضمير، وثبت مسرعاً لألتحق به فمسك شورتي مسماراً كهلاً منحنياً كان يسمع ويراقب حديثنا، ضارباً منطقة واسعة من لباسي وهذا الأمر أجلسني مكاني قسراً لأكثر من ساعة ونصف إلى أن أصبح الظلام مناسباً للخروج جرياً باتجاه البيت لأصل قبل وصل الكهرباء، نادماً على تلك الممازحة ونلت العقاب لأجلها بلباسي الرياضي الذي أحب.
سليمان حسين