الفنان الياس الحاج.. أعمالي الدرامية تجسد شخصيات حارتي وطقوسهم في الحبّ والحياة

الوحدة: 27-3-2021

 

باقتدار قاد السفينة على (أمواج) (البحر أيوب) وغاص في التفاصيل الدقيقة لبيئته الساحلية واختزل العمق الإنساني في (مرايا القلوب) فاستحق بجدارة لقب ربّان رواية البحر.. فنان عشق الفن بمختلف أشكاله تمثيلاً، تأليفاً، إخراجاً ونقداً… هكذا كانت رحلته المثمرة في مجالات الإبداع المتنوعة، إنه الفنان الياس الحاج، وللحديث حول أهم المحطات فيها كان لـ (جريدة الوحدة)  اللقاء الآتي معه…

– بداية، كيف تقدم نفسك؟

مطر.. مطر.. مطر.. ذات شتاء.. ولد البحر مصحوباً بصيحات أنين وفرح.. وشاءت إرادة السماء أن تبكي مطراً، وأن أبعث إلى النور.. الحياة.. مولوداً شقياً في فجر 24/11/1962 في بيت مؤلف من غرفة صغيرة وحيدة بدار واسع من حارة الفوقانية في اللاذقية يسكنها عدد من العائلات من البسطاء، وبالضبط في الزقاق الضيق الواقع في منطقة تجميل القلعة ومن تلك الولادة (الذاكرة) بدأت إبحاري مع الحياة.. فكتبت أعمالاً درامية عديدة عن شخصيات حارتي وطقوسهم في الحب والحياة.

– عرفناك مؤلفاً ومخرجاً وممثلاً ومعداً للبرامج وناقداً وعضواً في لجان التحكيم، من تكون اليوم من بين كل ذلك؟

هذا أنا، وربما أكثر من ذلك، يقولون إني بحار ابن البحر وأقول: أنا البحر ومن لا يعرفني، لا يعرف المد والجزر، كما أن أعمالي في أكثر من أربعين سنة احترافية في عالم الفن تجيب من أكون..

– إذاً، يمكن أن نصنفك بحاراً متأثراً بوالدك ربان الحياة؟

والدي ربان بحر وحياة وفي سمرته حرقة شمس الميناء وفيها حنيني، وقد قلت ذات مرة وأعيد إن والدي رجل البحر العتيق – في صمته حكمة- حين أمسكت أول مرة بأصابعه، كان سر قوتي إلى الأبد وقد منحني جناحي نورس وتركني أحلق في العلياء وحدي.

– في متابعتنا لك في اللقاءات الإذاعية والتلفزيونية والصحافة المكتوبة نجدك دائماً متأثراً بوالدتك رحمها الله  ما هو سرها في حياتك؟!..

  ست الحسن –  القديسة أمي-  سرها أنها وإن رحلت يوماً فهي لم ترحل مني وهي التي منحت حياتي المعنى، فمنحت كل ما أردت أن يكون قيمة من نور، ولقد أوصتني أن أفكر جيداً فيما أقول وأفعل كل شيء بسلام.

– ما الذي يميّز الكاتب الياس الحاج عن غيره في طريقة سرده للأحداث وتقديم الشخصيات؟

أنني أرسم بالكلمات الصورة والحدث وأنني أعرف جيداً حياة معظم شخصياتي حتى تلك التي ينجبها الخيال، ولكل عمل درامي أكتبه خصوصية، كما أنني أبتعد دائماً عن طريقة السرد لأحداث أو تقديم الشخصيات، فالأحداث لابد أن تكتب نفسها، وتميز الفكرة لدي، هي التي تقودني إلى كتابة سيناريو مختلف في معالجة الأحداث.. ومن الفكرة أبني موضوعي الرئيس الذي ينجب شخصياتي، فأصنع رواية درامية (جراً ودفعاً).

– برأيك ومن خلال تجاربك الفنية لماذا يبقى اسم المؤلف بعيداً عن الأضواء مع أنه من أهم أسباب نجاح العمل الدرامي؟.

من المعروف أن النص هو المرحلة المتقدمة في أي عمل درامي، وكاتب النص هو المصدر الأول للضوء  لكن وللأسف قلة من الناس يهتمون بقراءة اسم المؤلف، وربما يعود السبب لأنانية بعض المخرجين الذين حاولوا أن يصدروا أسماءهم في بداية شارات الأعمال الدرامية بهدف سرقة الأضواء، علماً أن القاعدة في المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون تصدر اسم المؤلف أولاً، إذاً المسألة تعود لتجاوزات في احترام التقاليد المهنية.

– البحر عند الكاتب الياس الحاج بمثابة حياة ووجود، تعيش تفاصيلها بدقة كبيرة، ماذا تحدثنا عن هذه العلاقة وعن طريقة التواصل معه؟

البحر، الماتعِ، الجميل، الغامض، المتباهي بنفسه.. الذاهبُ طولاً وعرضاً وهو مصدر إلهام ونشوة لي ولكل من يعيشون على شواطئه وأنا متلوّن مثله بألوان الحبِّ والهوى والشوق، إنّه سيّد الاحتمالات والحبُّ الذي يعيشُ بين الصحوِ والغيم بين الارتفاع والانخفاض وفيه تلقي شخصياتي الدرامية بهمومهما، وأحياناً تناجيه ويحلمون معه ويرحلون مع أسئلة أمواجه، إنه البحر بكنوز أسراره  وعمق حكاياه . باختصار، في شراييني ملح البحر وفي أوردتي تسري أمواج البحر الصارخة وكأنها عواصف روحي، ولأنني معمد بدموع السماء، شاء لي القدر أن أعيش الحياة مرتين.

– ماذا حدث لك .. وماذا خططت؟

فجأة يدق قلبك بسرعة، تتحول شرايينك إلى شد عصبي مؤلم غير محتمل.. وبلحظة مباغتة تشعر أن صدرك يطعن بألف ألف سكين، وتبدأ تتبدل حياتك من حالة طبيعية إلى تعرق فاتر.. ساخن.. بارد.. رهبة.. خوف من السقوط بغيبوبة.. النهاية.. قدر الموت.. وعلى الفور تنقلب نظرتك المادية للحياة وأنت في الطريق إلى الطبيب المختص ثم قسم الإسعاف في مشفى جراحة القلب، وتتبدد رؤاك بسرعة إلى خيال أشبه بشبح الوداع، شبح لا يخلو من حالة رومانسية مقلقة، تتجلى بتعلق روحك بمن تحب.. الحياة.. وقتها تستطيع القول إنك في حالة رحيل! لا تعرف كيف بدأ، وما سر اختيار هذا النوع من الرحيل لروحك، والذي تتمنى إخماد ناره في صدرك وأنت تتألم وتتألم بشدة أكثر وتتوسل الأطباء لإيقاف حدة الاحتشاء بأية طريقة.. فقط انتزاع الألم من صدرك  فجأة تختلج على سرير الإسعاف وفي سكون متواتر عميق، سلمت روحي وغفوت بين ذراعي البحر، وكأن رحلة من فيض الأحلام تسري في كياني.

–  لا بد أنها تجربة قاسية، ماذا منحتك عندما شعرت أنك تودع الحياة ثم تعود إليها؟

قلت يومها: قبل أن تودع الحياة  تذكر أنه يحق لك العشق حتى وأنت في سن الشيخوخة وتذكر أن كل من توقف عن العشق شاخ وهرم ولو كان ذلك في سن مبكرة وقبل أن تودع الحياة، تذكر أنه يحق لك السعادة بكل أشكالها وأن الكرسي الذي وضعت عليه لن يمنحك السعادة ولن يرفع شأن إنسان وأن قمة الجبل ليست هي موقع السعادة.. سر السعادة أن تكون أنت وليس الكرسي وأن تتسلق الجبل فتصل إلى قمة السعادة، لا أن توضع هناك حيث تبدو صغيراً وصغيراً جداً.

– كتبت العديد من الأعمال الدرامية، ماهي أهم تلك الأعمال، وما هي الأقرب إليك؟

كل أعمالي هي الأقرب إلي وخاصة تلك التي تختص بعالم البحر والإبحار ومنها أعمال بيئية دمشقية.

– هل لنا أن نتذكر بعضها؟

الجمهور العربي شاهدها ويعرفها منها: البحر أيوب، البطرني، مراكب بلا شطآن، على موج البحر، أمواج، يا بحر، هيلا يا بحر، الشرك – الحب في زمن الأنترنت، أنشودة المطر، مرايا القلوب، درب التبان، عائلتي، مؤسسة الفلافل، درويش، المنتوف، لعبة الكراسي، المدلل، القرش، الحب والحرب، الوهم، السنونو المهاجر، حكاية مرضي، آخر العنقود، رقصة الحبارى، عائلة فهيم، بين الناس، حلو الرواق .. إلخ.

– حصلت على لقب (ربّان رواية البحر) ماذا يعني لك هذا اللقب؟

أفخر باللقب كونه جاء نتيجة جهود بذلتها في تحقيق ما يطلق عليه رواية البحر التلفزيونية، والذي جاء بالتوازي مع تكريمي بدرع الإبداع الذهبي في دولة الإمارات العربية المتحدة سنة 2000, ولأني أعشق عالم البحر فقد زادني تحفيزاً لتحقيق مغامرات أكثر تأثيراً جماهيرياً, وحصد المزيد من لآلئ الأعمال الدرامية, التي تابعها الجمهور على امتداد مساحة الوطن العربي والعالم.

– حصدت العديد من الجوائز والتكريم، حدثنا عنهم وعن المسؤولية التي حملتها على عاتقك بعدها؟

ربما كنت محظوظاً في تحقيق الجوائز وأنا في سنوات مبكرة من العمر على صعيد جائزة أفضل ممثل ولمرات عدّة, وجوائز ذهبية مؤلفاً أو مخرجاً, منها: الجائزة الدولية الكبرى في العالم بمسابقة (الجائزة الدولية URTI بمشاركة 54 هيئة دولية- باريس) وجائزة الإبداع لأفضل تأليف احترافي, تكريم الإبداع من وزارة الإعلام, درع وبراءة تقدير نقابة الفنانين لأكثر من مرة, درع وشهادة الإبداع وسبيكة الذهب في الحفل السنوي لتوزيع جوائز المسلسلات, درع مجلس الشورى البحريني, درع وشهادة تقدير الأكاديمية العربية, درع الإبداع في مهرجان الفجيرة الدولي, لقب سفير الإبداع العربي عام 2007, درع احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008.

– أيهما أقرب إليك: التأليف أم التمثيل؟ وما هي خصوصية كل منهما؟

إنهما يكملان بعضهما، لكن المؤلف الذي احتاجني كثيراً أخذ الحصة الأكبر بسبب تكليفي الدائم بكتابة أعمال لصالح جهات عديدة محلّية وعربية، كما أن الممثل هو الذي صنع المؤلف ومن وحيه تتنفس وتتحرك شخصياته، فخصوصية الممثل لدي ليس مجرد الوقوف أمام الميكرفون أو الكاميرا أو التحرّك فوق منصة مرتفعة, ونطق كلمات الشخصيات بتنوع الحالات بل هو ذاكرة وجودية تثير في ذاتها مجموعة من المتناقضات المعقدة التي تجعل من فن التمثيل أكثر موضوعات الفن الدرامي صعوبة, ومن تلك الخصوصية أجد أن كتابة السيناريو أعقد بكثير بل أصعب من عمل عمّال المناجم, لذلك يتحرّك الممثل في شخصيات نصوصي الدراميّة متلائماً مع نفسه شكلاً ومضموناً وبمنطق لا يقبل الشك, وكمن يعيش الواقع أمام الكاميرا وعلى المسرح لا أن يمثّله, وهذه الحتمية تلزمني في التعاطي مع السيناريوهات بصدق وعفوية, وبالمحصّلة فإن الممثل عندي هو لبس دائماً روح الشخصيات التي أكتبها.. أمّا خصوصية الكتابة فهي ليست شكلاً ولا ممثلاً وممثلة وثرثرة وحسب ولا أزياء ومكياج ليست إضاءة وتصوير ومؤثرات فهي ما أمتلك من أشياء جوهرية أريد أن تصل للناس ويجب أن تعطي معنى للأشياء التي ألتقطها في الحياة اليومية، بمعنى أن تكون قريبة من حياة الناس، وهم المصدر الأساسي في التفاعل مع ما هو حولي من أحداث وقصص تغصُّ بها الحياة، ولو لم أكن كذلك لما استطعت أن أستمر لأكثر من سبع وعشرين سنة في كتابة تمثيلية إذاعية يومية بعناوين عدّة (كلمتين وبس، مع المحبة، حلة الرواق) وثنائيات درامية، ومونولوج يومي (يوميات أبو عنتر، يوميات مواطن عادي.. إلخ)

– أخيراً ما رأيك بالمشهد الثقافي بكل أطيافه (تشكيل، مسرح، دراما…) وما تقييمك له؟

في سورية لا يمر التاريخ مرور العابرين عند قامات فكرية وثقافية إبداعية تجاوزت ذاتها ومشاريعها الطموحة, ويشار لها بالبنان على مستوى العالم العربي والعالم, ومن حق كل منّا أن يفخر بها, ومن حسن حظي أنني عاصرت معظم الروّاد في تلك المجالات, وصنعت عن معظمهم أفلاماً وثائقية ( ديكودراما) ومنهم أبطال مسلسلاتي, كما حاورت الكثير منهم في حلقات منفصلة ومنهم في ثلاثين حلقة, مما يؤكد أهمية المشهد الثقافي السوري ودوره الفاعل والمؤثر في الحياة والوثيقة والدراما, لكن ما نشاهده اليوم يطرح علينا السؤال: كيف تصنع الدراما ؟, وما مصير نتاجات الفنون البصرية, إذا لم يكن من يعمل بها مؤهلاً للتفكير بأهمية ما يجب أن يقدّم للجمهور؟  وبمعنى آخر: كم يفتقر مشهدنا الثقافي الحالي إلى السبب الجوهري الذي يعرض على الناس (فكرة, معنى, تعبير, وجهه نظر, إحساس, معالجة الشكل والمضمون)، وتقييمي أن الحرب والحصار الاقتصادي أنتج فورة بعض الأعمال الدرامية الرديئة, وهذا ما يمكن إسقاطه على التشكيل والمسرح والموسيقا وحتّى صنوف الأدب.

ريم ديب

تصفح المزيد..
آخر الأخبار