الوحدة: 25-2-2021
كانت ماهيّة الأخلاق دائماً مسار خلاف جدليّ بين الفلاسفة ومعشر أولي الاختصاص، حيث اختلفت التّوصيفات وفق نظريّات معرفيّة مختلفة، فقاربت أسّ الأخلاق بأشكال متناقضة على الغالب.
وعلى سبيل المثال لا الحصر أرجع الفيلسوف الألمانيّ كارل ماركس الأخلاق على أنّها من صنع الأقوياء، حيث ابتدعها هؤلاء لفرض منطق نمطيّ على الضّعفاء من أجل السّيطرة عليهم و تجيير الواقع بشكل مناسب بالمجمل، مع استمرار هذه السّيطرة و تعميقها بشكل مديد، الأمر الذي يحقّق مصالحهم و يبقيها راسخة.
بينما كان الفيلسوف الألمانيّ الآخر فريدريك نيتشه على النّقيض منه تماماً. حيث قال إنّ الأخلاق من صنع الضّعفاء. ابتدعوها لتكون سلاحاً خفيّاً في وجه الأقوياء، لأنّهم لا حول و لا قوّة لهم إلّا بها، في ظلّ عدم امتلاكهم للقدرة الحاسمة، الأمر الذي قد يتيح لهم اقتناص البعض من الحقوق و المكاسب منهم.
على خلاف هذه النّظريّات الفلسفيّة التي ليس لها أي جذر دينيّ بفعل منظّريها،
نجد أنّ الدّيانات و التّعاليم السّماويّة التي جاء بها الرّسل و الأنبياء قدّمت الأخلاق بمنطق راقٍ وفق أبعاد إنسانيّة تفضي إلى تنظيم الحياة بين النّاس وصولاً إلى إسعاد الإنسان و تحقيق عالم فاضل ما أمكن. ساوت بين البشر في الحقوق و الواجبات بما يضمن تحقيق توازن لدى الإنسان سواء على مستوى الجانب المعنويّ و النّفسيّ أو على مستوى الواقع الماديّ. الأمر الذي يحفظ الحقوق كاملة كما الواجبات، فلا غالب و لا مغلوب في عالم تنعدم فيه قدر الإمكان سبل الظّلم و مسالك الفساد درءاً للشّرور و البغضاء، و نشراً للفضيلة في كافّة بقاع الأرض.
كلماتي هذه ليست في منحى مبحث فلسفيّ أو دعوة دينيّة، غير أنّ رأسي كعادته استرسل في عوالم البحث عن أصول الأشياء، علّه يفهم أسّ و حقيقة الأشياء، و ما أصعب العثور على كنز الحقيقة المجرّدة! و إذا ما قيّض لنا الظّفر بها وجدناها وحيدة في ركن ركين، و قد ابتعد عنها البشر إلّا نادراً.
عندما ندرك كنه الأخلاق نستدلّ بها على سواء السّبيل، فنصوّب الدّرب إذا ما تاهت أقدامنا في مفازات الحياة. من نشأ و ترعرع في كنف الأخلاق الرّفيعة استطاع أن يستشعر الخطأ فيتجنّبه أو ربّما يصحّح بشكل راقٍ ما قد أفسده و اجترحه. فالأخلاق قبل كلّ شيء التزام بالواجبات قبل امتلاك الحقوق. و النّأي بالنّفس عن كلّ نقيصة أو هنة. غايتها الوصول إلى أعلى درجات الفضيلة لتحقيق الأمان الدّاخليّ، و من ثمّ تأرّج لعطر السّلام عبر المجتمع و سموّ حياته إلى مدارج الإنسانيّة رفعة و مجداً.
و هنا يحضرني قول أمير الشّعراء أحمد شوقي:
وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فصلاح الأمّة في الأخلاق، و هلاكها في السّقوط دونها. و الفوز جلّ الفوز في معشر الفضيلة و ترك الرّذيلة، فلا خير في أمّة أغفلت حسن السّجيّة و أوهنت الخير بين البشر.
كم نحن بحاجة ماسّة إلى الرّجوع إلى فطرتنا الإنسانيّة في أيّامنا هذه، في محنتنا هذه. نقف مليّاً عند كلّ صغيرة و كبيرة بعين فاحصة و بصيرة ثاقبة، نسترجع ما ارتكبناه من أخطاء سواء على مستوى الذات فيما حملت رؤوسنا من بعض القناعات الخاطئة، و فيما ألحقنا من أذى بحقّ الآخرين. فنعيد للحياة بريقها، و نرجع خطواتنا المرتبكة إلى سواء السّبيل.
بالعلم و الأخلاق تبنى الأوطان و ترتقي، و لنا في البلاد المتقدّمة أسوة حسنة، نأخذ منها ما يناسب ثقافتنا و بيئتنا، نراكمه فوق ما ورثناه من تاريخ سورية الموغل في العراقة. فنعيد بناء وطننا الغالي بكلّ إيمان بهويّتنا و ثوابتنا الوطنيّة الأثيلة.
ستبقى الأخلاق (النّجم) الذي يقودنا إلى ميلاد و قيامة مجيدة. فكما أشرقت شموس السّوريّين حضارة منذ فجر التّاريخ ستبقى أمد الدّهر، و ستبقى الأخلاق إكليل نور يساور قممنا الشّامخة حتّى يرث الله الأرض و من عليها.
نور محمد حاتم