الشاعر زكريا عليو.. وإبحار عند القصيدة على مراكب الزمن

الوحدة 11-2-2021

 

 تتدافع الأحلام في توال لعدّ صباحات وليال لا تستكين، في تدافعها تلم خطاب الروح إلى الروح… تحمله إلى شطآن من ماض وحاضر ومستقبل، وعند ضجيج الأسئلة، تبقى الكلمة ترسم محياها، تحاول في كل مرة وفي جدلية دائمة أن ترسم بعض ملامحنا في جواب، وعند الأجوبة اللا منتهية، استكانة تسطر بعض البوح في وفاء البوح، وتطوافه في تلك المدارات يوحي للبحور لترسو عندها تلك المراكب، وعلى بحور الشعر، زمان ومكان وأوطان تعانق كل بوح رغم اختلاف الصورة وتباينها، وعند كل صورة حكاية تحزم زاد الروح إلى مراكبها…

الشاعر زكريا عليو عانق بحراً جمع فيه البحور، وهيأ من ضبابية الرؤى حقيقة في سطور، أرسى اختلاجات الحب والحياة عند قصيدة .

 الشاعر زكريا أحمد عليو مواليد محافظة اللاذقية، كان للأدب هوى خاص عنده، فعمل خلال سنيه على قراءة الأدب بشكل عام، واطلع على الشعر العربي، الجاهلي والأموي والعباسي، وشعر المهجر، والأندلسي، وراق له أدب المهجر.

بدأ يكتب بعض الخواطر ومن ثم اتجه لقصيدة النثر بداية 2016، وبالشهر التاسع من العام نفسه، شارك بمسابقة (همسة) الدولية في مصر الشقيقة، نال المركز الأول عربياً بقصيدة تحت عنوان (لعنة الطريق) كما شارك مرتين متتاليتين في ديوان حديث الياسمين المشترك، وهو ديوان يضم شعراء من سورية والبلدان العربية، وكل أديب يشارك بخمس قصائد، وشارك أيضاً في ديوان مشترك (ملوك الياسمين) في العراق الشقيق (مشترك أيضاً) وشارك مرتين متتاليتين في ديوان مشترك مع ملتقى منارات.

حالياً لديه مجموعتان شعريتان، كل مجموعة 75 قصيدة جاهزة للطبع يضاف إليهما مجموعة قصصية جاهزة للطبع، كما أنه يعمل على مشروع رواية حالياً، وعند شاطئ الشعر كان لنا هدأة عند حكاية فكان حوار..

 – ما بين الروح والعقل.. الصورة الشعرية أين بتموضع، وأيهما السباق في تشكيلها برأيك؟

الشعر هذيان الروح، لذلك الصورة من روح الشاعر والعقل يهذّبها لفظاً وحروفاً، لأن العقل هو الوازن بين الوعي واللاوعي، فالعقل هو الناظم، وإلا اعتبر الكلام هراءً، الروح ترسم والعقل يقرّ بها أو يرفضها، هناك علاقة بينهما.

– في خلق القصيدة، ما هي الدائرة التي يقف عليها الشاعر ضمن الموقف والقناعة، أم المعطيات المكانية والتراثية؟

الشاعر مرآة عصره، وعين المجتمع، ﻻ يكفي موقفه أو قناعته، فهو قبل كل شيء مفكر وعين الجميع، والناطق بلسانهم، مع الحفاظ على قناعته بحيث ﻻ تطغى على قناعة الآخرين، والمعطيات المكانية والتراثية لها حيّزٌ كبير فيما يكتب، التراث هوية الشعوب، ونتمسك به، والمكان يضفي جمالاً على الصور الشعرية واللغة التي يستخدمها الكاتب، كلّنا يذكر الشاعر علي بن الجهم، حين أتى من الصحراء، وكيف أثرت على ألفاظه حيث كانت قاسية وجافة، فأنشد الخليفة المتوكل يقول: أنت كالكلب في حفظك للودِّ وكالتيس في قراع الخطوبِ… وبعد أن أقام وتجول في حدائق البصرة، أنشد (عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري .. أعدن لي الشوقَ، القديم ولم أكن سلوت ولكن زدن جمراً على جمر).

– يقول بابلو نيرودا: الفراغ هو سبب أسئلة الشاعر القاتلة، ما هي المساحة بين الفراغ والوجود برأيك ؟ وأين تتموضع القصيدة بينهما؟

 الوجود حياة والفراغ مقبرة الوجود، وما بينهما صراع الفكرة، ومخاض القصيدة، حيث تولد الفكرة من هذا الصراع، وتولد القصيدة لتعيد الحياة للوجود، بين صورها الشعرية ، وترانيم الإيقاع.

– امتطى الشعر مدارات عدة، تنوع مع تنوع أزمانها… كيف تمازج وتفارق بين شعر الأمس وشعر اليوم؟

لكل زمان إيقاعه وضوابطه، بالأمس فرض الزمان والمكان شكل القصيدة بمفرداتها وصورها الشعرية، نرى عنترة يقول: فوددتُ تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم… والشاعر امرؤ القيس: مكرٍّ مفرٍّ مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من علِ، نلاحظ هنا براعة التصوير وكيف هو التأثر بالزمان والمكان.. وكيف سخّر الشاعر بيئته ورسمها شعراً، لكن رغم جمالها فالشاعر المعاصر والقارئ المعاصر، لن يستطيعا أن يتخيلا هذا الشريط الجميل ويشعرا بجماله ثم نرى في العصر الحديث الشاعر نزار قباني (والله لو بحت بأي حرف تكدس الليلك في الدروب.. ترونه في ضحكة السواقي في رفة الفراشة اللعوب..) نلاحظ جلياً تغير المفردات وعذوبة اللفظ وجمال الصور الشعرية، بما يتناسب مع الزمان والمكان، حافظ على الإيقاع والنظم لكن بأسلوب رقيق سلس يعطي الشعر جمالاً أكثر، إلى أن ظهرت قصيدة التفعيلة، التي ترتكز على حجر الأساس(التفعيلة) من الماضي لكن بطريقة، تميل للجنوح هروباً من قيد البحر الناظم لها، وأضافت الرمزية، ومن روادها نازك الملائكة التي أحدثت ثورة أدبية، وسار على خطاها الكثير من الشعراء مثل محمود درويش.

– قصيدة النثر التي تكتبها، بماذا تختلف عن قيود الشعر السابقة، ولماذا تحررت منها؟

أرى الشعر الموزون كمن يسبح بمهارة ضمن بحر معلوم الاتجاه والحدود، أما النثر فيغوص أو يسبح في محيط غير محدود المعالم، يبحث الغواص فيه عن جزيرة صغيرة لقيلولة قصيرة ومن ثم يعاود الإبحار والغوص، أكتب بعض الموزون مثلاً: (سمراء قُدّ الفجر من ضحكاتها وعلى لواحظها سهام تزأر… غمزاتها فتحت بقلبي ساحةً للوجد تقبل في الصميم وتدبرُ… فإذا تباعدنا وطال جفاؤنا أجري إليه معانقاً أستغفرُ)، غير أني شغوف بالنثر، واسع الأفق، أهرب من القيود، أذهب لحالة الهذيان الروحي، لغته تصل بسرعة، مفرداته عصرية حديثة.

 – الصورة الشعرية المكثفة التي جنحت في الكثير من النصوص إلى الرمزية والغموض، برأيك لماذا اختبأت المعاني خلف الكلمات؟

من خلال تعريف قصيدة النثر: الصورة الشعرية المكثفة، إيصال الفكرة بأقل عدد من المفردات، وبلغة شاعرية على سبيل المثال: أبحث عني، أراني… دمشق .. قذفت في فوهة البركان وحرّم على إبراهيمَ لظى النار)، ومن تعريفها الرمزية الشفافة التي ﻻ تجهد القارئ، لتعطي جمالاً للصورة الشعرية، ولا أحبّذ الغموض (وضد فكرة المعنى في قلب الشاعر) إذا حرص الشاعر على عدم وصول المعنى ولجميع القرّاء، ليدع قصيدته له فقط، الشعر رسالة ويجب أن تصل بسهولة للجميع، نشأت قصيدة النثر في عصر المقاومة، لذلك اعتمدت على عدم الافصاح جهاراً، وهذا نلاحظه في شعر درويش وغيره، كنوع من اتقاء الخطر، والتجاوز أو الالتفاف على سياسة كم الأفواه، وهناك فارق بين الرمزية والاختباء وراء الكلمات والضبابية الكثيفة التي تأخذ القصيدة إلى كهف الغموض والظلام والإبهام.

 – عندما لم يكن هناك انترنيت وتكنولوجيته، وصل الشعر إلى القلوب وشكّل رأياً عاماً قوياً، ونحن في عصر العولمة الذي حول العالم إلى قرية كونية، لماذا خلق الشعر فجوة بينه وبين الجمهور؟

سابقاً اعتمد الشعراء على إيصال نتاجهم الأدبي من خلال قصور الملوك ومجالس الأدب، وسوف عكاظ السنوي الذي يتبارى به الشعراء، وكان هناك حكم يلعب دور الناقد، ويحكم: هذا جميل وذاك قبيح، هذا جيد وذاك رديء، ويقرّ بشهادته الآخرون. أما الآن أنظر أننا في عصر الفوضى، رغم سهولة التواصل، وتبوَّأ أناسٌ طفيليون مكان الأديب والناقد، هناك من نصّب نفسه شاعراً وناقداً، ومنح لفلان لقباً فضفاضاً، وساعد غياب الناقد الحقيقي عن ساحة الأنترنت على خلق هذه الفوضى، هناك من استسهل كتابة قصيدة النثر دون الإلمام بمبادئها وغايتها، وكتب وصفق له الكثير ودون دراية، وخبرة بالأدب، مما ساعد على توسيع الهوة بين الجمهور المثقف الواعي وبين الشاعر الحقيقي.

حب الظهور والشهرة على حساب النوعية، خلط الأوراق مما جعل شرخاً واسعاً بين الجمهور والشاعر وهناك من نصب نفسه ومنح شهادات دكتوراه فخرية وغيرها، مما أضاع الهوية الحقيقية للشعر.

 –  كثرة المنابر الشعرية والملتقيات والمنتديات والروابط الأدبية المنتشرة حالياً، كيف تعلل ظهورها الكثيف؟

للمنابر حرمتها، ويجب ألا يعتليها إلا من كان أهلاً لها، سهولة إنشاء منتديات، وبكل أريحية تعمل روابط نشر وتوثيق، ساهم كثيراً في خلق الفوضى، ليت هناك ضوابط لهذه الفوضى، وأن تخضع لمراقبة أدبية حقيقية، بحيث ﻻ يسمى مدير ملتقى إلا من يستحق ذلك، ويقع على عاتقه، وبحرفية اختيار من يصعد المنبر، ومن هو أهل لذلك، وقبل الملتقى يطّلع على القصائد ويملك حق القبول والرفض، وفيما يتعلق بظهورها هناك خلل كبير، البعض استغلها للشهرة الكاذبة، والبعض الآخر لكسب ود السيدات أو المتنفذين، ولغايات شخصية، متناسين أن الأدب أمانة الأجيال والوجه الأجمل في ثقافة الشعوب.

 – يقال إن (الشعر في زمن الرصاص ثرثرة)، هل حقاً هذا؟ أم أنّ صوت الرصاص يصيغ صوت الشعر؟

هل عندما قال إبراهيم اليازجي تنبّهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب هل هذا ثرثرة؟ وعندما قال الشابي: ومن يتهيب صعود الحبال يعشْ أبد الدهر بين الحفر.. هل هذا ثرثرة!؟ وفي زمن الرصاص وإن كان ثرثرة فهي حميدة، وإن كان المتعارف عليه أن ﻻ صوت يعلو فوق صوت الرصاص، شخصياً أرى صوت الشعر يصوغ صوت الرصاص، مهما طال أمد الرصاص ﻻ بد من الاحتكام للعقل في النهاية، والشعر يضبطه العقل، الشعر يوصل صوت العقل، لذلك الشعر يضبط صوت الرصاص لا بل يكتمه.

– وأنت السوري الذي عايشت آلام بلدك هذه السنوات، كيف صغت الصورة السورية عند بيت القصيدة؟

 سأدع هنا بضعة مقاطع من عدة قصائد وهي تجيب عني: الله محبة… أنى يقبل قربان الدم؟ الغراب فطن… يواري سوءة رسل الظلام والبوم ينعق بفكرة سوداء المطر ويفرّخ في الّلحى الطويلة الكيباه… (وهي عبارة عن قلنسوة صغيرة يضعها اليمين اليهودي على رأسه) الكيباه لن تمنح الأقزام طولاً لكنها تهب الثعالب أنامل تحرك بدهاء خيوط الدمى لتعلو قهقهات كركوز ومع كل قهقهة يولد هولاكو ليقطع أثداء أمه.

وهذا مقطع من نص آخر (المخاطب سوريا حبيبتي): عندما أحبُّك تسقطُ من يدي الحجارةُ التي أقذفُ بها العصافيرَ والرصاصةُ المختبئةُ في جيبِ حقدي تصبحُ وردةً بيضاءَ تغري الفراشاتِ بالرقصِ بندقيتي الخرساءُ تنسى طباعَها وتطلقُ إحدى وعشرين قبلةً…  وضحكةْ أناملي تغدو أغصانَ زيتونٍ تتفيأُ المدنُ الحزينةُ ظلالَها والبحرُ يتخلّى عن كلِّ حماقاتِهِ لتُراقصَ حورياتُه أحلامَ الصّيادينَ وتمخرَ الأماني إلى جزرِ النّورِ … عندما أحبُّك أزفرُ الصدأَ الأسودَ وأستنشقُ الصباحَ ملءَ رئتي فتَشفى من السّقمِ روحي ويبلسمُ عطرُكِ جِراحي أغسلُ جبيني بضوءِ الحبِّ ليعودَ وجهي المسافرُ في العتمةِ… يا دمشقُ أنا نورسُك العتيقُ الجديدْ ابيضت من الحزنِ أجنحتي على أسوارِكِ رميتُ أسلحةَ الكفرِ وعندَ عتباتِك أخلعُ نعلي أتوضّأُ من طهرِ بردى معلناً توبَتي وفي محرابِ قاسيونَ أصلّي…

وهذا مقطع من نص آخر: لأنك وطني، تخليت عن كل أسلحتي إلّا… قلمي ورسائل الحب ودفاتر يثرثر الأخضر فيها كعيون حبيبتي (سلمى) لأنك وطني أحبُّك ولا أخجل وعلى مقاسك أفصّلُ أحلامي بين خرائط وجعك وصدئها تعفنت جراحي وبين أسلاكك الشائكة أضعت هويتي وتمزّقت رغباتي وما زلت على عتبات المجد أصلّي.

سلمى حلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار