الوحدة 7-2-2021
كان السحاب الثقيل يتوسد ذرا سنام الأعالي ويغفو على كتف جبل ليكون جسر محبة بين من يرفعون الأيدي للسماء مبتهلين: اسق العطاش… وبين جود ذي السخا… وذي العطا… وهو يتعالى فوق أخطاء البشر ويغدق عليهم ديوماً سكوباً تحي الزرع والضرع..
كيف لا وقد حملت شوق الأرض للمطر وماء السماء المقدس وكنوز أعطياتها…
كقبلة مسافر بأول وداع… وفرح الشاطئ برؤية أول شراع إثر طول غياب،
ينطق المطر بصوفية عشق الأحياء لخالقهم وحبه لهم وقد وهبهم برداً منثوراً من عليائه يحل فيض عطاء وبواكير ثمر على أراضيهم.
(لقد خلقنا من الماء كل شيء حي)، ردد بخشوع وهو ساهم بعظيم قدرة الخالق وبديع صوره في غابات ساحرة تسقى بدموع العيون ودقات القلوب لروعة جمالها.
والحافلة تنهب الطريق الإسفلتي الفاحم لا يدري كيف وقفت صورتها أمامه وهي ملهوفة خائفة عليه؟
ستمرض، الثلج يتساقط والبرد ينخر العظام وهو يأبى أن يتحرك مشمراً وسط الساحة وبياض الثلج يكسو كل ملامحه… ستقولين لي موقفك بصراحة وصوت عال أو سأبقى مكاني..
لطمت بكفيها النحيلين على ورد خديها وسط حيرتها وذهولها وخوفها عليه ولم تجد بداً من تلبية رغبته الجنونية.
أومأت له ليقترب فلبى طلبها وهو يتيه بمشيته كالطاووس… صار قبالتها وقطع الثلج البيضاء تغطي رأسه وكتفيه ووجهه… ها أنا ذا أسمع…
بصوت خفيض همست له: أحبك… نعم أيعقل أن يحتاج الأمر لاعتراف… ادخل يا مجنون سيقتلك البرد…
انفرجت أساريره وبدأ ينفض الثلج عنه وقبل أن يرد عليها غادرت وهي تكاد تذوب خجلاً..
ذكرتني يا ثلج بها… تنهد بعمق وشعر بأحزان العالم بأسره تتجمع بقلبه، ماذا فعلت بك الأيام؟
في أول استراحة عاود التدخين بشراهة ضارباً عرض الحائط تحذيرات الأطباء…
عبثاً كان يحلم أن يخرجه سفره من يم أحزانه، بعد توقف الحافلة بمدينة صغيرة وسط البلاد بدأ يبحث عن عيادة طبيب نصحه بعض الأصدقاء بالذهاب إليه…
وسط زحام المدن في الأصبوحات الشتوية وجد ضالته وجلس ينتظر دوره وعيناه تجوبان أفق الشبكة العنكبوتية عبر جواله.
سمع صوتها أو خيل له ذلك.. رفع رأسه قليلاً، مسح نظارته لعله ينجو من غرقه بأحلامه…
لكن ذات الصوت عاوده من جديد… جال ببصره بأرجاء غرفة الانتظار الرحبة، …انتبه ان سيدة أربعينية تمسك بيد صغيرها ترجو الممرضة أن تدخلها بسرعة للطبيب لأن حالة الصغير إسعافية…
لا يمكن تجاهل الدور فالأستاذ من مدينة بعيدة وقد حجز هاتفياً قبل حضوره، إذاً أنا المقصود…
هب واقفاً، مشى خطوات ثلاثاً… ثم خاطب الممرضة: أنا أعطي دوري للصغير بكل رحابة صدر…
مسحت جفنيها من سيل دموعها وقفت قبالته وأردفت: شكرا لصنيعك أيها… وما أن وقعت عيناها بعينه حتى أصاب الذهول كلاهما…
ثلاثون عاماً لم تنل من طيبة قلبك… يا رب السموات… هذا أنت، نعم اهدأي… هذا ابنك… نعم وحيدي… هذا ما أبقته الحرب لي…
بعد ما حل بحلب وأهلها أخرجوني مع صغيري من تحت الأنقاض، لا عليك هدأي روعك وحسب ما حال البطل الصغير…
انه يحمل اسمك نفسه… بعد إنقاذنا لا حظت أنه أحياناً يفقد البصر لبعص الوقت وما أن يهدأ ويشعر بالطمأنينة يعود ليرى مجدداً… أنا خائفة عليه ما زال غضاً.
لا بأس سنرى ما يقول الطبيب بعدها لكل حادث حديث…
لم أنت هنا… وما كل هذه الأقمار بشعرك ؟.. .لماذا تفيض أسى وحزناً؟
لم يعد باستطاعتي أن أموت أكثر… فقدت طموحي وبيتي ومدينتي ونهري… وأشك أني بدأت أفقد بصري، نطق كلماته تلك بصعوبة بالغة ثم ظل صامتاً واجماً.
انتظر حتى تم فحص الصغير والاطمئنان عليه، وبعد أن أنهى كشفه الطبي جلسا متقابلين بعد أن دعاها والصغير لمشاركته فطوره.
لا تقلقي الطبيب شرح لي حالة صغيرك بمجرد أن ينسى ستزول تلك الحالة ساعدوه على ذلك… هذا دور العائلة.
قاطعته عن أي عائلة تتحدث… في الانفجار الكبير مات أبوه وجداه، لم يبق له سواي تركت كل المدينة من أجله ولكنه ليس بخير.
تلك هي الحرب…عوضك الله خيراً… المهم صغيري…أنت تعرف أن زواجي كان فقط لأغيظك وقتها، كنا مجانين، ولا تدري كم ندمت بعد فعلتي، لكنك عاقبتني بقسوة كبيرة جداً… أخرجتني تماماً من حياتك…ورفضت حتى أن نلتقي أو أن نتحاور…
ضحك طويلاً… ثم حمل الصغير وأجلسه على ركبتيه وبدأ يطعمه بيديه وهي مشغوفة بكليهما لا تدري ما تقول… ثم ألقت رأسها على كتفه وبكت طويلاً…
لن تتركني مجدداً بعد أن جمعتنا أقدارنا مجدداً… تحادثا زمناً واتفقا على كل شيء ثم ودعته ليعود لمدينته.
في طريق إيابه نام طويلاً بعمق وطمأنينة كما لم يفعل من سنين طوال… وبعد أن استفاق تارة يدندن وأخرى يبتسم متذكراً تفاصيل يومه… وكيف أطفأ الثلج نيراناً أحرقت فؤاده لعقود ثلاثة من الزمن.
محمود القاسم