الوحدة: 25- 1- 2021
تشكل المعارك الأدبية انعكاساً للاتجاهات والمدارس الفكرية والفنية والفلسفية و الأدبية والاجتماعية ولابد من العودة إليها وإحيائها لإغناء المشهد الثقافي في كل المجتمعات الأمر الذي يؤدي إلى رفعتها وتقدمها والوصول بها إلى المستوى الثقافي المنشود وهذا ما أوضحه الكاتب مصطفى سليمان في كتابه: تراث وحداثة، حيث قدم دراسة نقدية عن هذه المعارك الأدبية مشيراً أن القارئ المتابع هو المستفيد الأكبر، حيث اتبع في دراسته تلك تسلسلاً زمنياً يفيد الأجيال القادمة فاستهل حديثه بالإشارة بداية إلى جمهورية أفلاطون ومحاوراته العديدة التي تعكس صورة صادقة وشاملة للمعارك الفلسفية في العصر الذهبي اليوناني إذ كانت تدور حول علوم الطبيعة والنفس والفن والآلهة والسياسة والأخلاق و كانت أولى المعارك الأدبية المسرحية حول إيسخيلوس أبي التراجيديا اليونانية.
ومن جهة أخرى أشار المؤلف إلى سوق عكاظ موضحاً أن أسواق العرب وخاصة سوق عكاظ كانت تشهد خلال مواسمها ومضات من المعارك الأدبية أو المجادلات الشعرية التي كانت تضرب للنابغة الذبياني خلال “معرض” الشعر، ديوان العرب، في عكاظ حيث كان الشعراء يحتكمون إليه ويتناقشون في صورة أو لفظة أو معنى وفق المقاييس الفنية العفوية التي كانت سائدة في ذلك العصر و تلك المرحلة من طفولة النقد العربي، وفي العصر الإسلامي والأموي كانت أقلام المعارك الأدبية رماحاً وسيوفاً تكتب بالدم أشعاراً وخطباً ورسائل… وانتقل المؤلف للحديث عن العصر العباسي الذي تبلورت فيه المعارك الأدبية بين المتنبي وخصومه والبحتري وأبي تمام، كانت معارك تعكس التيارات الفكرية والفنية والفلسفية السائدة والمتصارعة بحركة جدلية تصور حيوية العقل والحركة النقدية في ذلك العصر الذهبي، وقال بهذا الخصوص: اغتنت المكتبة العربية بذخائر نفيسة نتيجة تلك الخصومات كالموازنة بين الطائيين للآمدي والوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني ثم انعكست تلك الخصومات في مؤلفات المعري بعد سنوات عديدة وهل (رسالة الغفران) للمعري إلا صدى لما كان يجيش في عصر المعري من معارك وخصومات في اللغة و الأدب والفلسفة والأخلاق ولقد شهد بلاط الأمراء “معارك” أدبية ومناظرات فكرية في موضوعات متنوعة عكست الرقي العقلي في ذلك العصر ومن حصيلة تلك الحركة الثقافية كانت كتباً شامخة مثل (الامتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي ومناظرات شهيرة دونتها كتب الأدب ومن منّا لا يذكر معارك المتنبي في بلاط سيف الدولة في حلب مع أبي فراس وغيره من الشعراء واللغويين.
وتابع المؤلف قائلاً: إن المعارك الأدبية بلورت كل الاتجاهات والتيارات الفكرية والفنية والفلسفية والأدبية والاجتماعية في مصر العربية وفي كثير من المجتمعات العربية الأخرى إذ شارك كثير من مثقفي بلاد الشام في هذه” المعارك” وكانت مصر هي الساحة التي استقطبت هؤلاء المثقفين فأسسوا فيها الصحف والمجلات والمسرح فكانت تربة ووادي النيل أخصب تربة احتضنت بذور الثقافة العربية المعاصرة فمن من المثقفين العرب لم يتتلمذ على يدي طه حسين ومعاركه العنيفة حول قضية الشعر الجاهلي ففي مدرسة طه حسين ومن خلال معاركه الفكرية تخرجت أجيال من المثقفين العرب ومن من المثقفين العرب لم يتتلمذ على يدي العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري في الكتاب الشهير ” الديوان”.
وختم المؤلف حديثه بالقول: عندما تكون ساحة المعارك الأدبية ساكنة على صفحات الصحف والمجلات والدوريات المختلفة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة فهذه ظاهرة غير صحية فالجسد عندما ” يتعارك” مع جرثوم اقتحم جهازه الدفاعي المناعي فهذا دليل حيوية وعافية، لكنه عندما يستسلم له يكون مصاباً بعوز المناعة فينهار، لذا لابد من العودة إلى المعارك الأدبية لابد من تحريض جهاز المناعة الثقافي العربي بجراثيم المعارك أو المحاورة أو المناظرة… والتخزين الثقافي الذاتي يصاب بالتعفن في ذهن المثقف إذا لم يشارك فيه الآخر فالمحاورة والمناظرة على أسس موضوعية علمية رصينة يجب أن تحل محل المجادلة فالمحاور “مثقف” لا يخشى الجدل والمجادل مستثقف يخشى الحوار فكن محاوراً لا مجادلاً فالمحاور رابح دائماً والمجادل خاسر أبداً.
ندى كمال سلوم