عتبةُ الألم…

الوحدة: 24-1-2021

 

 

أنا تائهةٌ في عتمةِ المدينة، ضجيجها يؤذي سمعي، لقد كانَ الهواء مثقلاً وساكناً وكأنني داخلَ غيمةٍ، إن هذا يذكرني بشتاءٍ طَويل، وسألتُ نفسي هل أذيتُ العالم..؟

مِنْ المُرَجح أني أذيتهُ، بقدر ما هو مرجح أن أساعده، ومن غير المرجح أن أقوم بكلا الأمرين معاً، المشكلة لا تكمن في العالم وحده ، المشكلةُ فينا نحن، لقد سقطَ

مِفتاح الصول من أعماق قوقعةِ حنجرتي، تلاشى صوتي، وضاعت كلماتي، ولمّ أعد أحبُّ أن أغني، (كان هذا سابقاً) لأنه سيأتي ذلك اليوم قريباً، حيث ستحلق روحي عالياً كنسرٍ لا يُقهر إلى أن عجز العالم نفسه عن احتواء روحي البهيجة، قررت حينها أن أجمع كلماتي،  و(أضبضب) أفكاري، وكأن هذا المرض يقول لي: سأبقى

حياً ولكنكم أنتم الذين سوف ترحلون، وستذهبُ أحلامكم وتزحف معكم صاعدة إلى السماء…

المشكلة ليست في الألم والذي سببتهُ كميات هائلة من الأدوية اللعينة، بل العديمة للإنسانية المطلقة للألم، الكون يريدُ أن نلاحظه، لكن ما أريده أنا أن يلاحظنا هو وأن يبالي بما يحدث لنا…

عندما انتهيت من جمع أفكاري، وتركي للنجوم، لأحضر لشتاءٍ قادم أشعر بأنهُ بات قصيراً جداً، تسحبني آلامي وكأنني مجرمة، وضعت الأصفاد على أفكاري التائهة وكأنها أصبحت مُدانة لها، أي مقيدةً حُرمت حرية أن تطوف في المكان وأن تحتاجني… أصبح صدري يحرقني إلى أن عَجزتُ عن التمييز بين الآلام..

الألم دائمُ الحضور، فأخذت أفكر في الكون الذي يريد أن تتم ملاحَظتهُ، وكيف عليّ أن ألاحظهُ بأفضل ما يمكن!

شعرتُ حينها أنهُ علي دينٌ للكون ولا يسدّد إلا بتأمله واستخلاص عبرِه، وأن هناك ديناً للجميع، ربما هم ليسوا على قيدِ الحياة بعد الآن، ولكن ربما أغلبهم لم يعشّ حياته كما ينبغي والتي كان يتمناها ويحلم بها.

اشتقتُ إلى المستقبل، وإلى أفكاري التائهة التي سُجنت في سِجن النسيان، وكان السجان هو ذلك المرضُ اللعين والذي قال بأنه سيبقى حياً.

 تساقطت أحلامي كتساقط الورق من شجرة أفكاري، هو تساقط لم يكن مفاجئاً، لكنه مؤلم، مؤلم وقاسٍ، لا يمكنني أن أتحرك لالتقاطها، لقد تحولت إلى رماد كأعوادِ الكبريت، شعرت بصراحةٍ تامة تجاه نفسي، أنني شخصٌ لا أستحقُ هذا، ربما هذا ما كانت أمي تكرره على مسامعي، وأنت شخص صالح، ربما كان عليها أن تقول هذا لذلك المرض،  فأنا أعلم هذا وعلى نحوٍ جيد، لكن هل هو يعلم؟

ألا يشعر بالأسى تجاهنا؟ ربما هو يتجنب الحقيقة ويخاف أن تراها أعينه، لا أريد أن تصبح حياتي بائسة، لقد أنهكتني سنوني، وطلبت مني الحياة الكثير، وكان هذا أصعب طلب، وآخر طلب، أمي دائماً تدعو ليّ، ودائماً ما تحضنني، ربما كان عليها أن تستغل وجودي، وكأنها تريد أن تستجمع بعضاً من رائحتي وتحتفظ بها إلى نفسها، وتخزنها في حقيبة، تستنفذها بعد موتي، لأنه ربما هذا ما قد يبقى مني، هي قالت لي: (إن الحُبَّ دائم حتى لو رحلنا وأنه كالفجر تماماً) سحبت بنفسي إلى تروقتها وقالت ليّ: أنا أسفة…. لكن أنا من كان عليه أن يأسف يا أمي ليس أنتِ، لأنني سمحتُ للحياة أن تقطف زهرتكِ الوحيدة، وترمي بها في صحراءٍ بعيدة جداً.

ربما هناك حظوظ بقاء في الحياة ولكنها بالطبع ليست أبدية، وأنا قد تراجعت حظوظ بقائي حيةً إلى عشرين بالمئة، فقلت لها مبتسمة أخفي عنها أبجدية الألم: لا يا أمي هذا المرض يطوف الأرض بحثاً عن شخص ما يؤذيه، لقد غاصت عيناها بالبكاء وكأنها تنتظر نومي لتبكي، لكن صراحتي لها جعلها تكشف عن دموعها والتي غاصت في كهف حزنها المعتم الخالي من أيِّ دفقٍ ضوئي، لكنني قلتُ لها: الألمُ يا أمي مثل قطعة قماش كلما كان قوياً زادت قيمتهُ، وها أنا أجعل لأحزاني منعطفاً بعيداً عن أعين أمي كي لا تراها، وتراني قوية، لعلي أنفثُ فيها حياة جديدة تذهب عنها الحزن والبؤس، ثم ذهبت… وأنا حاولتُ النوم، بدأتُ أتأمل جدران غرفتي والتي سأشتاق إليها كثيراً، ومن الواضح أن هذه الانتكاسة ستجعلني أشيخُ مبكراً، وحينها شعرت بأني تعرضت للسرقة، وهذا ما جعلني أتذكر كاتباً أجنبي يدعى بيتر فان هوتن، عندما قال في روايتهِ التي تدعى (محنةً عظيمة): ( واجَه رجلُ الخزامى الهولندي المحيط والمدُّ يتصاع، يجمع، يضم، يسمم، يخفي، يكشف، انظر إليه، يعلو وينخفض، جارفاً كل شيء معه، سألته: وما هو! الماء..  قال الهولندي، وكذلك الزمان)…

بقيتُ مستيقظةً حتى وقتٍ متأخر جداً أقرأُ رواية تسمى (عتبة الألم)، هذه الرواية تتحدث عن المكافحة والصمود حتى النهاية وأنه على الإنسان ألا يصبح عابراً

وعليه صُنع لنفسهِ بصمةً حتى يبلغ الجبل وعليه أن يصارع وألا يخاف من النتائج، ففكرت هل هناك ما يمكن أن أفعله؟

(الكِتابة تحيّ ولا تُدفِن)… وهكذا استيقظت متأخرة في الصباح التالي يوم السبت

قضت سياسةُ أمي بعدم إيقاظي لأن أحد متطلبات وظيفة المريض المحترف هو الإكثار من النوم، ولكن هذا الأمر أصابني في البداية إلى نوع من التوتر والارتباك لكنه ربما جيد إلى حدٍ ما حتى حين موعد سفري إلى السماء، ولأودعَ فراشي وأهنئ بفراش من الغيوم دافئ جداً…

تذكرتُ ذلك الكتاب، ذهبت مسرعة لأغسلَ وجهي وتأملته كعادتي، هالاتٍ سوداء ناتجة عن التورمات، عينان منتفختان، وجه شاحب يسعى لينبض بالحياة، وأكملت تنظيف أسناني، فذهبت وفتحتُ حاسوبي، وبدأتُ في كتابة خاطِرة، سأفعل هذا دائماً لعله يصنعُ لي تاريخاً جميلاً أو يقرأهُ أحداً ما…

وكتبت… (أنهُ يوم السبت الخامس عشر من شهر آذار، كرست حياتي من أجل أن أساعد الجميع، وأنا أحِبُّ الجميع، والجميعُ يحبني، وحتى إلى هذه اللحظة، ولن أكون أنانية لمساعدةِ أحد، لدي قصة تستحقُ أن تروى، قصة الصراع مع الألم وعذاب داخل أضلعي، لا أظن أني سأبقى حيّة طويلاً، ولا أعلم بأن هذا العالم قد ربما سيتذكرني يوماً، ولن أجري وراء أفكاري.

سارة حلّوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار