الخـــيال.. العالــــم الافتراضــــــي

العدد: 9305

الخميــــــــس 28 شـــباط 2019

 

الخيال قوة تأملية في العقل ونشاط ذهني فريد، وتغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها، وهو فعل جميل يمنح الخصوبة للحياة، ويعتبره البعض ضرباً من ضروب المعرفة يعبّر عن التّبرّم بالمألوف والعادي وعدم الرضا بالجانب المكشوف من العالم وقفزة حرة خارج المفهومات السائدة، والرغبة في الإقامة خارج القوانين الموضوعية والأنظمة السائدة، وكما يقول ألبرت أنشتاين (الخيال أكثر أهمية من العلم لأنه أصل الاكتشافات).
الإنسان يملك سيكولوجيا معقدة وخيالاً خصباً مدهشاً يُمكّنه من العيش في بُعدين في وقت واحد (واقعي- متخيل) ويحيا في عوالم طافية في افتراضية صرفة غالباً ما يكون لها تأثير كبير في سلوكه وأفعاله مثل بساط الريح ينقل المرء بين العوالم والأكوان ولا يحتاج إلى محركات نفاثة أو وقود للوصول إلى الغاية التي يريدها.
المبدعون والأدباء والفنانون هم الأكثر تعاطياً مع الخيال في أعمالهم الإبداعية لإذابة الحدود بين الواقع والمتخيل، ومنهم من يلجأ إليه من الضيق بالواقع أو الانقلاب عليه أو الاجتماع على المجتمع ورفض سننه، وأعرافه، يتسلقون قبة أسطورية من المشاهد والأحداث وينبشون الأشياء المخبوءة محاولين العثور عليها، ويفتحون سديماً واسعاً في مخيلاتهم وأنفاقاً سرية يُغوونا باتباعها في رحلة البحث عن المدهش المتفرّد وإزالة الحجب الكثيفة والضباب المتراكم على البصيرة لتنجلي الغشاوة عن العيون ومنعطفات النفس لتكون الرؤية أوسع، وإزالة الغبار عن الدروب والزواريب لجلاء الحقائق، ولترى النفس وتعي ما حولها.
الخيال ترحال بسرعات عالية خارج المحسوس والملموس وتغيير في ترتيب الأشياء وفي نظام النظر إليها بفنية طرائقية لإبصار ذات المشهد من زاويتي نظر مختلفتين، وعندما يُثار ويبدأ بخفق أجنحته يتجاوز حدود المفاهيم والتقاليد المتبعة في العصر لاقتناص الرؤى الطامحة وتحويلها إلى خيول جامحة، وإلى أفق جديد وكلما اتسعت الرؤية ازداد عمق الاستنتاج ورؤية العمق المحجوب والأعماق المعتمة الثاوية خلف وجه الصورة المغطى.
أغلب صنوف الأدب تعتمد على الخيال، وهناك أعمال أدبية طافية في بنية تخيلية صرفة حيث يستثمر الأديب أحلامه الواعية وتفانين خياله المشبوب لاستنهاض بواطن اللاشعور وهو غارق في عالمه الخيالي الافتراضي ببطء وهدوء وتركيز وعيون مفتوحة لكتابة قصة أو رواية، أما الشعر فأغلبه رؤيا وخيال وطيران في اللا متحقق وحفر في الأقاصي، ونحن في الصعب غير المدرك وملاحقة الشخصيات الهاربة من الذاكرة، فما بالك بالشاعر الذي تحدوه رغبة الانفلات من إطار العقل وتوازنه الصارم بمتعة ولذة يسرح فيهما العقل لأبعد ما تدركه العين، يلج باباً سحرياً لمخيلته الوثابة ويطل على الوجود من علو شاهق في المقامات المهجورة البعيدة عن عيون الناس، ويجدل من شعر السماء أعنّة لخيوله وشياطينه، وأسرار السحر تنفث معانيها وهو يواثب مشاهد وشخصيات وأحداثاً يحيا معها عالمه الوهمي، يرى فيها الكذب والصدق، والحب والغرام والكره، والجميل والقبيح والدميم، والأفكار والصور تتهادى كالهمس والزهر والشوق على طاولة الصباح.
الخيال هو المكان الوحيد الذي يستطيع فيه المرء الحياة بحريّة كاملة مطلقة، وأفضل وسيلة لتنميته هي زيادة الوقت الذي يبقى فيه الإنسان مع نفسه والتماهي مع خياله حتى ذوبان الحدود بين الواقع والمتخيل، وعندما يتمادى العقل في اندفاعاته اللا منضبطة واللا واعية قد يوصل الإنسان إلى تهمة المروق والخرف والهلوسة والخروج عن السائد وقد يوصل إلى تخوم المرض أو الجنون أو الانتحار، فما بالك بالإنسان المربوط الخيال الذي أوصد كوى خياله ورؤياه وتنعق في عقله أشباح اليأس يجري وراء الشياطين أو تمسُّ عقله ولا يستطيع أن يلامسها؟!

نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار