الوحدة: 9- 11- 2020
وهو يعبر في سيارة أجرة تئن من طريق وعرة بين الجبال الشامخة بقوة ..
كان ينظر باستغراب شديد , ويسأل نفسه بصمت ..
كيف قطع كل هذه المسافات مشياً على قدميه , وهو طفل ..
يمسك بيد أمه تارة , وبطرف ثوبها الطويل تارة أخرى ..
ويمشي بثقة استمدها من أم تشبه هذه الجبال ..
يعيد شريط ذكريات قديمة كانت قد دخلت في سراديب النسيان لولا هذا المشوار المفاجئ ..
الذي حصل دونما خطة , أو برنامج عمل ..
ويتأكد اليوم , وبعد عشرات السنين أن أمه ابنة هذا الجبل ..
الشامخ , الصلب , القوي , الأخضر , الجميل ..
أمه التي عادت لتقف أمامه اللحظة , وقد غادرت منذ سنين ..
تقف بشموخ ككل الجبال المتجاورة , المتلاحقة .. على طول الطريق .
عادت لتقف أمامه , وهو يمضي في دهاليز طفولة فقيرة .. بل غنية بالأحداث , بالقصص , بالخيالات , وبالطعام اللذيذ ..
لم يجع يوماً , ولم يشته زاد أحد .. سوى صحن أمه , وملعقة عامرة بالخير اللذيذ .
تذكر .. هنا مشى , وقطع كل هذه الطرقات الترابية للوصول إلى بيت قريبة أمه ..
وفي صحن كبير ضم لبنا , وحنطة ” متبلة ” كان الطعام لكل الموجودين , وملاعق ضخمة من خشب .. لا بد أن يأكل بها , وهو ابن المدينة , لا يعرف ملعقة الخشب إلا تلك الضخمة التي كانت تستخدمها أمه أثناء الطهي .
تجربة خاف من ولوجها حتى لا يتحول إلى مسخرة حين يرمي اللبن فوق ثيابه , وحين تؤنبه أمه ..
فالبيت بعيد , وتغيير الملابس صعب للغاية .
اليوم .. يمر من ذات المكان :
الجبال ما تزال شابة كما رآها وهو طفل صغير .. لم تطلها فأس أو سنوات , ولم تصل إليها الحرائق الأخيرة …
والحمد لله ..
وتأكد أنها جبال محمية من الرب ..
فما يزال سكان القرى التي مر بها يجلسون أمام بيوتهم ساعة استراحة ربما .. يشربون المتة ..
وبعضهم يجادل شجر الزيتون يأخذ حباته بعناية , ومحبة . .وأحيانا بعصا !!
بالماضي … كان الرجل يلف سيجارته , ويدسها بين إصبعيه , يشعلها , ويدخنها بثقة ..
اليوم …عاد الرجل يلفها .. بعد أن ارتفعت أسعار الدخان ..
عاد إلى ما تنتجه أرضه المتواضعة من تبغ , يأخذ حصته منها لعام كامل , ويبيع الباقي للدولة فقط .
أما الجديد اليوم ..
سيدات الجبال تجلسن , وأمامهن الأراكيل .. ينفخن الدخان الكثيف غير عابئين بغلاء , أو بصحة ..
الجديد أيضاً .. أبنية مدرسية وسط جبال لم تعرف إلا التراب طرقا , والشجر مظلات ..
تقف بخجل بين قرية , وأخرى ..
وفي الطرقات أولاد , وشباب يمرون برقة , أو بعنف فوق دراجاتهم النارية الصاخبة .. وحيث تمضي بهم الحياة يمضون .
سعاد سليمان