العدد: 9303
الأحد: 3-3-2019
تُشكّل اللغة العربية هويّة الأمّة الثقافيّة التي تُميّزها عن باقي الأمم، فهي مُكوّن رئيس من مكونات المُجتمع، وهي وسيلة فضلى للتّعبير عن المشاعر والاحتياجات الخاصّة بالفرد والجماعة، واللغة العربية من أكثر اللغات تحدثاً ونطقاً وانتشاراً في العالم، عرفت بجزالةً ألفاظها وقُدرتها على استيعاب المعاني الجليّة، وسعة مدى بيانها، حتى تفاخر العرب سابقاً بقدرتهم على نظم الشّعر والنّثر والبلاغة، وضرب الأمثال، ويعود أصلها إلى اللّغات السّامية، وتُعد الأقرب إليها من بين جميع اللّغات التي تعود لنفس الأصل، ويعود أصل أقدم نصوصٍ عربيّة عُثِرَ عليها إلى القرن الثّالث بعد الميلاد، وهي نصوص شعريّةٌ جاهليّةٌ تتميّز ببلاغة لغتها، وأسلوبها الرّاقي، ووزنها الشعريّ المُنتظم، وترجح أغلب الأقوال بأنّ أصل اللّغة العربيّة يعود لبلاد الحجاز في شبه الجزيرة العربيّة، وتطوّرت مع الزّمن نتيجةً لعدّة عوامل، منها تعدُّد الحضارات وتعدُّد لهجاتها، وإقامة الأسواق المُختلفة مثل سوق عكاظ، وتُعد الأسواق اللغوية من أبرز العوامل التي أثّرت في ظهور اللّغة العربية الفصيحة وتطوّرها كثيراً. حَظِيَت اللّغة العربيّة بما لم تحظَ بهِ أيّة لُغةٍ من الاهتمام والعناية، لأنّها لُغةُ القرآن الكريم، فالله جلّ جلاله اختارها من بين لُغات الأرض ليكون بها كلامهُ الخالد الذي أعجز بهِ من كانَ ومن سيأتي إلى قيام السّاعة.
تكمن أهميّة اللغة العربيّة في ُكوّنها مكوناً مُجتمعياً رئيسا أولاً، وعاملاً مهماً من عوامل البناء في مُختلف الحضارات والثّقافات، لأنّ التّواصل الذي يتمّ عن طريق اللّغة هو اللّبنة الأساسيّة في عمليّة البناء هذه، وقوّة اللغة وبلاغتها يُعبّران عن تماسك المجتمع النّاطق بها، واهتمامه بها وبقواعدها، وعلومها، وآدابها، وهذا يُعدّ أجمل أشكال الرُقيّ في التّفكير والسّلوك لدى المُجتمعات المُحافظة على لغتها.
تمتدّ أهميّتها اللّغة العربيّة إلى العلاقة الوطيدة بينها وبين ثّقافة الشعوب وهويّتهم الخاصّة فهي وسيلة التّواصل بينهم، وهي التي تُعبّر عن تفكيرهم ووسيلة نشر ثقافات الأمم المُختلفة حول العالم.
تتميّز اللّغة العربيّة بالكثير من الميزات التي توجد في لغة الضّاد فقط، ولا توجد في غيرها من اللّغات، ويُذكَر من هذه الميزات:
* الفصاحة: أي خلو الكلام ممّا يشوبه من تنافرٍ بالكلمات، وضعف التّأليف، والتّعقيد اللفظيّ.
* التّرادف: وهو أن يدلّ عددٌ من الكلمات على نفس المَعنى المراد.
* دلالة الأصوات على المعاني.
* كثرة المُفردات: تزخر اللّغة العربيّة بعددٍ وافرٍ جدّاً من المُفردات، ولا تحتوي لغةٌ أخرى على عدد أكثر أو يُساوي العدد الذي تحتويه لغة الضّاد.
* علم العروض: وهو العلم الذي ينظم أوزان الشّعر وبحوره، ويضع القواعد الرئيسة لكتابة الشّعر، ممّا جعل الشّعر العربيّ هو الأكثر بلاغةً وفصاحةً نتيجةً لاتّباعه أوزاناً مُحدّدة، وقواعدَ رئيسةٍ.
* علم البلاغة: وتعني قوّة التأثير وحسن البيان.
* علم المعاني.
* علم البديع.
*علم العروض والقوافي: وهو علم يبحث في حال الأوزان أو الميزان الشعري الذي يعرف به الموزون من المكسور، كما يعرف على أنه موسيقى الشعر أو علم ميزان الشعر. علم الاشتقاق، والتصريف، علم الإعراب، والترادف والتضاد.
لغتنا وعاء يحتوي العلوم، والتّكنولوجيا، والثّقافة، والتّاريخ، والحضارة، لكن حالها في مواجهةِ التَّحدِّياتِ المَصيريَّةِ، كحالِ الأمَّةِ في مواجهةِ الغُزاةِ الطَّامِعينَ، تكونُ ضَعيفَةً حينَ يتفرق العرَبُ، وتكونُ قويَّةً حينَ يجتمعون.
هل أضحت لغتنا العربية عند أهلها هجيراً ينبغي الهروب من لظاه إلى فيء اللغات الأخرى واللهجات، راغبين بالعجمةِ، وإدخال كلمات أجنبية في أحاديثهم بدعوى الانفتاحِ والعولمة تارة، و بدعوَى التَّخصصُ الأكاديميِّ مرة أخرى، وبدعوى إثبات الثقافة الواسعة المشروطة – برأيهم – بمُصطلحاتِ أجنبيَّةِ يمطرونا بها، وقد ينطقونَهَا على خلافِ ما ينطقُ بها أهلها.
لغتنا العربية العريقة جذورها في أعماق التاريخ ضاربة، وفروعها في الآفاق تختال خجلاً وخوفاً من ريح تعبث بها فتقلَّم فروعَها، وتسعى إلى اقتلاع جذورها، وإفراغ وعاءَها الثَّرَ من مضمونه لولا سد منيع يحاول – ما ملكت أيمانه- المحافظة على مكانتها وأهميتها ويسعى إلى حل مشكلاتها، لا تقتصر التحديات التي واجهتها اللغة العربية على سياسة الفرنسة والتتريك التي واجهتها سابقا، بل تعدى اتهامها بالقصور والجمود والتخلف والصعوبة في النحو والصرف، وسمت بالتخلف وعدم مواكبة روح العصر، والتفجر المعرفي، وكانت مساهمات أبنائها واضحة في ذلك، فقد استبدلوا بالفصحى عامية، ولهجات، واعتادوا الأمر واستسلموا لعاداتهم، و(لكل امرئ من دهره ما تعود)، فباتت الفصحى عصية وغريبة وإن حضرت – في غالب الأحيان- تتخللها أخطاء كثيرة على مستوى النحو والإملاء والأسلوب، وما نشهده في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الإعلانات التي تملأ ساحاتنا- وفي وسائل الإعلام التي تتكاثر في كل حين، وفي الكلمات التي تلقى في المناسبات وفي العملية التعليمية في مدارس التعليم العام، وفي المعاهد والجامعات يشهد على ذلك.
إننا نشكو حقيقة من أزمة لغوية حادة تلطخ جبيننا الحضاري، لأسباب نذكر أهمها: غياب إرادة الإصلاح اللغوي أولاً، ومن ثم تراجع الممارسات التعلیمیة السائدة في المؤسسات التربویة، غیاب خطط تدریسیة مجدية للغة العربية.
إن أكثر مشاكلنا الحياتية هي مشاكل لغوية كلامية بين منطوق لم يقصد ومقصود لم ينطق، لغتنا جميلة في بلاغتها وتعبيرها في بيانها الذي يشكل عامل جذب كبير لجانبها الجمالي البلاغي التعبيري، لماذا نستعير من الغرب وسائل تعبير، ولغتنا أم اللغات تنضح في معجمها اللغوي والشعري بمعان وتعابير وصور غنية في دلالاتها تظهر مستوى لغتنا، وكم نلجأ في حياتنا اليومية إلى فيء المجاز والصور للتعبير عن موقف ما، فكم من حبيب يحدث حبيبته بلغة المجاز من دون أن يقرأ في المعاجم وفي الكتب بشكل عفوي وكم من أم تحدث الأطفال بصور جميلة من مجال اللغة الجمالي المنطقي.
اللغة مسؤولية الجميع، بدءاً من الجامعة إلى مؤسسات التربية وأجهزة الإعلام والمنظمات الثقافية، مسؤولية وجهاء النخبة، مسؤولية الشاعر، والكاتب والقارئ والمدرس..
فليس من اليسير الاكتفاء بتوزيعِ التُّهَمِ بعيداً عن تُقَدِّيمَ الحلولُ النَّاجِعَة والدَّائمَة، وإن منعِ إطلاقِ التَّسمياتِ غيرِ العربيَّةِ على المحالِّ والمُؤسساتِ والفنادق والملاهِي وما إلى ذلكَ، لا يُجدي ولا يُغني إخضَاع مقدمي البرامج في وسائلِ الإعلامِ إلى اختبارٍ باللُّغَةِ العربيَّةِ شرطَاً للقبولِ والتَّوظيفِ.
إنَّ دورَ المُؤسساتِ التَّربويَّة عامَّة يجبُ أن يصبَّ في الذَّودِ عَن اللغة العربيَّةِ بما تُؤديهِ هذهِ اللغة من أدوارٍ في حياةِ الفردِ والمُجتمعِ والأمَّة، لذلك يجب على المعنيين توجيه المدرسين والمحاضرين بالحديث باللغة العربية الفصحى سواء في المدارس والجامعات أم في المراكز الثقافية والندوات الأدبية.
إن وضع المعلم في حالةٍ لا نُحمَدُ عليهَا تأهيلياً، إذ لا بدمن النَّظَرِ في وضعِه ولا بد من ثورة انقلابيَّة في تأهيلِ هذا المُعلِّمِ، فهوَ الذي يضعُ الأعمدةَ على الصَّخرِ، وَكُلُّ بناءٍ على الرَّملِ سينهارُ بِسُرعةٍ، وهنا بيتُ القصيدِ.
إن اللغة السائدة الآن هي لغة الأقوياء اللغة تتبع القوة والقوة تحافظ على اللغة، للإعلام دور مهم في التنبيه إلى موضوع الغزو الثقافي واستبداله بانفتاحنا على ثقافات العالم بشكل واع وصحيح عن طريق مثلاً تنشيط حركة الترجمة وللإبداع دور مهم في تطور اللغة ونموها نمواً صحيحاً عن طريق توفير حرية الرأي والتعبير.
اللغة هوية المجتمع يمكن الحفاظ عليها بتنقيتها من الشوائب التي تشوبها، اثنان لا يشبعان طالب العلم وطالب المال فلنكن جشعين للغتنا.
د. غيثاء قادرة