الوحدة : 19-5-2020
أكد مدير آثار اللاذقية الدكتور إبراهيم خير بيك أنه من أصل ثمانية مسارح أثرية مكتشفة حتى الآن في سورية يبرز مسرح جبلة الأثري، وهو بحالة سليمة إلى حد مقبول ولعلّه يشغل الموقع الثاني من بينها لجهة سلامة بنيانه واستيعاب المتفرجين بعد مسارح بصرى وتدمر وشهباء وأفاميا وبصرى والنبي هوري يقع المسرح وسط مدينة جبلة الحديثة في الجهة الشرقية من المدينة القديمة بمجاورة السور الروماني كما هو الحال في موقع مسرح بصرى ومسرح جرش الجنوبي وأرجع د. خير بيك بناءً على بعض المؤرخين تاريخ بنائه إلى عهد الإمبراطور جوستيان، لكنه أمر غير مؤكد حتى الآن، فمن خلال الدراسة المعمارية لمسقطه وزخارفه الهندسية يمكن أن يُرجَع تاريخ بنائه إلى القرن الثاني الميلادي، وقد أتى على ذكره معظم المؤرخين والجغرافيين، وكان حصناً عربياً إسلامياً في جبلة خارج الحصن الرومي القديم وسينتج من ذلك أن الروم البيزنطيين حولوه إلى قلعة للدفاع عن المدينة أثناء الفتح الإسلامي لمدينة جبلة ، ويبدو أنه بقي قلعة حتى في الفترة الصليبية والأيوبية والمملوكية، ويُدَل على ذلك من خلال الأبنية المضافة والقطع الأثرية من فخار ونقود ظهرت أثناء أعمال التنقيب زاره عدد من الباحثين والرّحالة ومنهم المؤرخ أرتست رينان الذي زاره عام 1860 فوجده بحالة جيدة، ويبدو أنّه يعد هذا التاريخ قد امتدت إليه يد العابثين، ويشهد بذلك المؤرخ رينيه دوسو عقب زيارته للمدرج عام 1895، لأنّ حالة المسرح ازدادت سوءاً ربما بسبب الزلازل المتلاحقة التي تعرضت لها المنطقة، وعبث الأهالي بحجارته وأعمدته، وكذلك يد الإنسان التي تأخذ الحجارة المشذبة لبناء بيوتها، وهذا ما ساعد على تشويه هذا المسرح حيث بات مكباً للقمامة والأنقاض.
ويقول د. خيربيك من المؤكّد أنّ المسرح استخدم حصناً في الأدوار الإسلامية ومنه أطلق على المكان اسم القلعة الذي بات المسرح يعرف به إلى يومنا، وهذا التحويل يجد ما يماثله في مسرح بصرى أيضاً، كما تفيدنا شهادة شيخ الربوة الدمشقي حين زار جبلة ” بأنّه كان منها مقر لملك له سرب أو سرداب يركب الراكب فيه تحت الأرض إلى ظهر السفينة في البحر”.
ولربما كان هذا مرد الاعتقاد السائد والمتواتر لدى أهل جبلة بأن مغارة البابين المحفورة أسفل الكتلة الصخرية التي يقوم عليها الآن مبنى مديرية ميناء جبلة تتصل بسرداب طرفه الآخر في القلعة أو المسرح.
يوافق المسرح بصميمه العام ما هو معروف عن مسارح العالم الكلاسيكي غير أن ما يميزه حقاً هو أنه بيّن وواضح جداً، والكيفية التي تبنى بها المسارح على موقع منبسط وسنستغل “الحديث للدكتور خيربيك” الفرصة لشرح هذه الناحية وتتضمن المشكلة المطروحة بالسؤال التالي: “كيف يمكننا أن نحصل على الشكل القممي وتراكب الدرجات فوق العقود الحلقية للحصول على صحن المسرح فوق أرض منبسطة؟
إن مسرح جبلة يقدم لنا الإجابة على هذه المسألة بكل وضوح حيث يوجد عقدان حلقيان نصف دائريين الأول محيطي أي خارجي كبير ومرتفع برسم الاستدارة الكبرى المحيطة، والثاني داخلي صغير وأقل اتساعاً وارتفاعاً منه.
ولإكمال الشكل نصف القممي أو نصف المخروطي فوق هذين الدهليزين الحلقيين أي فوق ظهرها من جهة الخارج. لابد من إكمال الفراغ المتشكل بينهما بعقود معترضة محاورها تتوجه نحو مركز المسرح , أي أن هذه المحاور تلتقي في مركز المسرح ويبقى علينا إملاء أو ردم الفراغات المتشكلة بين ظهور هذه العقود جميعها لتحقق شكلاً قممياً مثالياً لنصبح بعدئذ جاهزين لتركيب درجات صحن المدرج عليه.
يتسع المدرج إلى ثمانية آلاف متفرج , وهذا يدل على أن مدينة جبلة في العصر الروماني كانت من المدن الأكثر أهمية بالمقارنة مع المدن الأخرى المعاصرة لها, والمسرح مبني على أقواس وعقود بشكل هندسي دقيق , يتألف المستوى السفلي من 13درجة والمتوسط من 12 درجة .أما العلوي فلم يبق منه سوى أربع درجات ويعتقد أن العدد الإجمالي للدرجات 35, وربما تنتهي الدرجة الأخيرة برواق معمد مسقوف كمسرح بصرى , وتؤمن حركة (الاتصالات داخل المسرح وعلى الدرجات بوساطة الرواق الرئيسي الذي يعطي المسرح الشكل الدائري وبأدراج موزعة بشكل دقيق.
يدل بناء المسرح وتنظيم مدرجاته وعقوده وأروقته ومواد بنائه وتزييناته الحجرية على مهارة هندسية تشير إلى عبقرية ذلك العصر ولذلك استحق قول أحد مرافقي بعثة أرنست رينان( إنه أجمل الآثار الرومانية على الساحل الفينيقي يبلغ قطر المسرح الأعظمي 90 متراً تتوسطه ساحة نصف دائرية قطرها 21,5 م تدعى الصحن وفي وسطه قناة لتصريف مياه الأمطار تمر من تحت الخشبة أو منصة التمثيل وجدارها الأمامي مزيّن بمحاريب ذات شكل نصف أسطواني , كما يوجد وراءها الكواليس المشهدية التي لم يبق منها حتى ما يدل على وجودها أصلاً وذلك نظراً لإشغالات لاحقة وعوامل الزمن الطبيعية
زوّد المسرح بالعديد من الأدراج والأقبية الشعاعية والدائرية الفاصلة والأدراج الداخلية والخارجية والعديد من الممرات التي تفصل أقسام المسرح وتسهّل عملية التنقل داخله واستعملت أروقته ودهاليز المسرح كمخازن ومحلات وأقيمت فوقه دارات اتخذت إحداها سكناً للمستشار الفرنسي والأخرى لقائد الدرك والمسرح مغمور بالردميات ولا تظهر منه سوى عدّة درجات من أدراجه.
في عام 1999 قامت بعثة أثرية سورية بلجيكية مشتركة بأعمال توثيق المسرح بوضعه الراهن فقط دون الدخول بأعمال الترميم والتنقيب وعام 2006 بدأت أكبر عملية كشف وتنقيب وترميم وتأهيل في تاريخ المسرح واستمر العمل حتى عام 2010 حيث تم كشف جميع الأروقة الشعاعية والدائرية بإزالة كافة الردميات والأنقاض المتراكمة عبر الزمن بالكشف حتى عمق أربعة أمتار وظهرت الأرضية الأصلية للأروقة كما ظهرت الكورنيشات الحجرية فوق منسوب الأرضية الأصلية ثم كشفت الأدراج المطمورة سابقاً والتي وظيفتها الأساسية إيصال جمهور المسرح إلى مناسيب مختلفة منه لتسهيل عملية دخول وخروج , إما من جهة المنصة فقد تم كشف المنصة وغرف الملقنين تحتها ولها سبعة أبواب تتفتح على رواق طويل يتصل بالصحن عبر بابين جانبيين كانا مغلقين بالإضافة لإزالة المكاتب الموجودة في أقبية المسرح تم ترميم مدرجات جلوس الجمهور وأدراج الدخول والخروج وأقواس الأروقة ومحاريب واجهة وأرضية المنصة والأقواس الشعاعية الحاملة للمدرجات والدرابزين الحجري.
وتقام ثلاثة مهرجانات سنوياً في المسرح منذ عام 2007 وهي مهرجان طريق الحرير ومهرجان جبلة الثقافي ومهرجان المحبة. وقد عثر أثناء عمليات التنقيب على قالب حب الذهب الذي يعود للعصر المملوكي وعثر أيضاً على نقد ضمن المدرج أثناء أعمال تنظيفية وهو عبارة على فلس نحاسي قطره 2,1 سم , الوجه الأمامي عليه مشهد بشكل رأس إمبراطور يعلوه تاج مع ربطة للرأس تظهر خلفه لـ يحيط به شريط كتابي باللغة اللاتينية يشير إلى قسنطين الثاني سنة 337- 361
من جوبيتر إحدى رباب النصر, يحيط بالمشهد إطار كتابي يشير إلى وجود معاهدة عسكرية.
خديجة معلا